لماذا يصرخ الإنسان الغربي في عصرنا، ويضج بالشكوى من شقائه، وشعوره بأن الحياة بلا معنى؟ ألا يستطيع التقدم المادي أن يهب له السعادة ، ويزيح الشقاء والمرارة والبؤس، والتفاهة، التي يعاني منها ؟سؤال لن يكون الجواب عنه بالإيجاب إذا علمنا أن الشقاء والتعاسة النفسية من أهم الأسباب التي أدت إلى انتشار العيادات النفسية بكثرة في بلدان العالم الغربي، وتشير الإحصائيات إلى أن الاضطرابات النفسية وصلت إلى مستويات وبائية خطيرة سواء في أواسط الكبار الذين يشكون ضغط الحياة المادية مصحوبة بمشاكل الانحلال الأخلاقي،والتفسخ العائلي، والاضطراب العقلي، والتفكك الاجتماعي، وبانتشار الجريمة إلى حد يثير الخوف والذعر لديهم ،أو في أوساط المراهقات بأثر من هاجسهن بامتلاك أجساد مقولبة على نمط ما تقدمه وسائل الإعلام العمومية. إني خائف يا دكتور.. إن العالم يتساءل الآن حول التناقض ما بين القدرات المادية الهائلة الصناعية والتكنولوجيا التي أوصلت للفضاء وبين الضياع الروحي للإنسان الغربي الذي يهوي به إلى الكارثة ..لقد بالغت الحضارة الغربية في إعطاء الحرية الشخصية للإنسان، ليفعل ما يشاء ما دام لا يعتدي على غيره، فأفسدت عليه فطرته، ولم تستطع إشباع نهمه كله. فالشهوات كلما ازداد المرء منها عبًا، ازداد معها عطشًا، ولا يوجد في الكون كله شيء حر حرية مطلقة، فالبواخر في المحيطات، والطائرات في الفضاء، تسير في مسارات محددة، لا يجوز لها أن تتعداها، وإلا هددت بكوارث لا تحمد عقباها، ولا تعرف نتائجها.لذلك نجد الإنسان التائه يكثر من الشكوى السائدة هذه الأيام لديه فأهم مشكل يواجه المرضى النفسيين في أمريكا هي الخوف، إذ إن المريض يدخل على المعالج فيسأله المعالج : بماذا تشعر ؟يجيب المريض: إني خائف بفيقول الطبيب : من ماذا ؟ يلتفت المريض يمنة ويسرة ويقول : لا أدري ! إلا إنني خائف !!! صف لي مهدئا.. وتشير آخر الإحصاءات والشهادات الصادرة عن علماء النفس وغيرهم تؤكد أن من بين كل عشرة أشخاص سبعة يعانون اضطرابات نفسية في أمريكا .كما تحولت 70% من مستشفياتها إلى مصحات عقلية ونفسية. والأرقام التي تنشر عن استهلاك الأدوية المهدئة وارتياد المستشفيات والمصحات النفسية تجعلنا نتخيل أن نصف السكان هناك في العيادة والنصف الآخر في الانتظار ! فهناك وصفة لدواء مهدئ من بين كل أربع وصفات طبية عادية . ويباع يومياً ستين ألف صنف من العقاقير والأدوية الأخرى ! أما في بريطانيا فيدخل ما يقرب من مائة وسبعين ألف مريض إلى المستشفيات النفسية وما يقرب من ستة عشر ألفاً من المعوقين والمتخلفين عقلياً .أما فرنسا فقد استهلكت عام 1982 أكثر من مليون علبة دواء من المنومات والمهدئات ..أما الإدمان على الخمر والمخدرات ، والتفكك الأسري والجريمة والانحرافات الجنسية والضعف العقلي ، والأمراض النفسية الجسمية .... فالإحصاءات رهيبة ، والصحافة ومنظمات الصحة العالمية تنشر بين الحين والحين أرقاماً مروعة.فقد جاء من مجلة فرنسية : إن الانتحار يشكل 10% من أسباب الوفيات بين سن العشرين والرابعة والعشرين. وفي إحصاءات فرنسية لعام 1986م هناك سبعة عشر ألف حادثة انتحار ناجحة بين المراهقين فقط ! حياتي تعقدت.. هذا هو لسان حال الإنسان الغربي في ظل هذه الحضارة المادية الذي تعقدت ظروف حياته وكثرت مطالبها ب ويسعى بكل طاقاته لتحقيق أهدافه وطموحاته ب وفي سبيل ذلك يوجه كثير من المواقف الضاغطة في البيت وفي العمل وفي البيئة المحيطة . ويواجه الصراعات النفسية التي تؤدي إلى التوتر والضيق الناتج عن التردد في اتخاذ القرار ب هذه الصراعات التي تؤدي إلى اضطرابات ( بسيكوسوماتية ) أو نفسية جسمية مثل ارتفاع ضغط الدم وتصلب الشرايين والقولون العصبي والهستيريا التحولية . وأيضاً يواجه الإنسان الإحباطات التي قد يتولد منها العدوان والقلق والتوتر والأرق وربما سلوكيات منحرفة وغير ناضجة.و انتشرت المخدرات والتفكك الأسري والاضطرابات النفسية ، فكم من زوجة تتقلب في فراشها لا تذوق للنوم طعماً ولا تعرف له سبيلاً ب سيل من الأفكار والوسوسة والهواجس والهم والغم . وكم من أب يعاني ضيقة الصدر والاختناق، وأعراض الكآبة والانطواء والقلق والتوتر والأرق .... وكم من أم تصرخ في وجه طفلها أو زوجها لأتفه الأسباب. دعني..وشأني.. إذا كان البعض يستطيع في الغرب أن يذهب عند الطبيب ويقول له إني خائف ..فالكثيرون يفضلون حياة الانزواء وحال لسانهم يقول: دعني وشأني ..وانتشار الاكتئاب كأول الأمراض النفسية في الغرب مسألة يمكن لمسها على سحنات العديد من الناس من مختلف المشارب إذ تشكل نسبة عدد المصابين بهذا المرض (90%) من بقية المصابين بأمراض نفسية أخرى التي تبلغ نسبتها هي الأخرى أمام المجموع الكلي للأمراض العضوية زهاء (11%) بينما تشير آخر الإحصاءات: (إن عدد المصابين منهم الذين يترددون على عيادات الطب النفسي حالياً بحدود (450) مليون شخص ومما يؤكد ذات الإحصائية أن واحد على الأقل من (4) أشخاص معرض للإصابة باضطرابات عصبية أو عقلية في مرحلة ما من حياته. ويبلغ عدد المنتحرين سنوياً بمعدل وسطي يصل إلى مليون شخص أو يزيد على ذلك أحياناً. وهناك تصور عام أشارت إليه إحدى الدراسات الحديثة حددت فيه: (أن العديد من الأشخاص غير المصابين بالاكتئاب لا بد وأن يصابوا بالاكتئاب خلال مرحلة من مراحل حياتهم وأكيد فإن الظروف الحالية التي تعصف بمعظم العائلات في الغرب ذاته ليست مسألة يمكن تجاوز بحثها نظراً لما تسببه من تأثيرات سلبية على بقية مرافق الحياة فمن بين (64) شخصاً كان هناك (22) شخصاً أقدموا على محاولات انتحارية جادة. القلق يصيب الأطفال أما هيئة (تشايلد لاين) البريطانية الاستشارية فقد أكدت أن أطفالاً صغار في السادسة من أعمارهم يحاولون الانتحار في بريطانيا بعد تعرضهم لاعتداء جنسي وتعذيب مدرسي وإجهاد في الامتحان، ويتلقى بهذا الصدد خط المساعدة الهاتفية الخاص بالهيئة ما يصل إلى زهاء (1500) مكالمة سنوياً من أطفال لديهم ميول مؤكدة للانتحار بل أن بعضهم يتصل هاتفياً لإنقاذ شخص يحاول قتل نفسه وتتراوح أعمار الغالبية العظمى ممن يتصلون بخط المساعدة بين (13) و(18) سنة.و يقول العالم النفسي الشهير سكنير محللا في كتابه الشهير: تكنولوجيا السلوك الإنساني (مٌَُّل ئْمملٍُ فلىهَىٌُّّ): صعود القمر ليس من أولوياتنا ولا بأولى من تحسين التربية في مدارسنا ! ولكن صار ذلك ممكناً من منطلق قدراتنا المادية في حين أن أطفالنا يسيرون سيراً حثيثاً نحو كارثة ما ... استخدمنا كل ما نملك من قدراتنا في العلوم الطبيعية في السيطرة على المشاكل الإنسانية المرعبة.. قارنّا وقسنا وحللنا إلا أن ثمة شيئا آخر ! لعله تعقيد السلوك الإنساني والظاهرة الإنسانية التي استعصت على البحث العلمي ... ولم تخضع له بنفس الصورة التي خضعت بها الظواهر المادية للمختبر. جسدي يقلقني! يتساءل الخبراء الغربيون هل ثمة علاقة بين صورة الجسد وظهور اضطرابات نفسية لدى المراهقات؟ سؤال أرّق الجميع ووصل الأمر إلى بعضهم أن يقول:إن الأمر ليس فيه مبالغة؛ فصعود ثقافة الصورة في القرن العشرين وصل إلى ذروته في وسائل الإعلام المرئية التي تقدم عارضات الأزياء وملكات الجمال، بأجسادهن النحيلة المقدودة حسب مقاييس دور الأزياء صاحبة المرجعية في هذه الأمور! والتي تسهم إلى حد كبير في صياغة التصور العام عن المواصفات السوبر للجسد النسوي المثال. وتشير الأرقام (حسب الحياة اللندنية) إلى أن 80 % من المراهقات لا يشعرن بالرضا عن صورة أجسادهن ، وأن 75 % منهن يشعرن بالبدانة، على رغم عدم بعدهن عن الوزن الصحي. وتمضي المراهقات ما متوسطه بين 3 ساعات و 4 ساعات يومياً، أمام شاشات التلفزة التي تُعد من أهم مصادر المعلومات لهن. وتظهر الإحصاءات أن 60 % من المراهقات يحتفظن بمجلة نسائية واحدة على الأقل، وأن إعلانات عن وسائل مختلفة لإنقاص الوزن تظهر بمعدل 105 أضعاف عنها في المجلات المخصصة للرجال. وتمتدح كل مقالات المجلات النسوية الجسد النحيل، وتحض 75 % منها على اعتبار النحافة مساوية للجاذبية الأنثوية.ومن ثم رأينا المراهقات اللواتي يعشن تحت سلطان هذه الثقافة يشكين من القلق، والاكتئاب، والخوف، والأسى، واليأس، والغربة النفسية، والشعور بالضياع وتفاهة الحياة، يحسون أن هذه الحياة لا هدف لها ولا رسالة ولا طعم ولا معنى. وهذا يحطم الإنسان من داخله.ولا غرو أن كثرت العيادات النفسية والعصبية نتيجة ذلك ، حتى غدت تعد بالألوف، ومع هذا لا تكفي زائريها، وقلما يجدون عندها ما يشفي عليلاً، أو يروي غليلاً. شهادات حية ضدي.. نورد شهادات حية تبين مدى شقاء الإنسان الغربي الذي أخذ بزمام المادة ونسي الروح ، معتقدا أن العلم المادي وحده قادر على جلب السعادة إليه، يقول ألكسيس كاريل في كتابه الإنسان ذلك المجهول: إن الحضارة العصرية تجد نفسها في موقف صعب، لأنها لا تلائمنا، فقد أنشئت دون أية معرفة بطبيعتنا الحقيقية، إذ أنها تولَّدت من خيالات الاكتشافات العلمية، وشهوات الناس، وأوهامهم، ونظرياتهم، ورغباتهم، وعلى الرغم من أنها أُنشئت بمجهوداتنا، إلا أنها غير صالحة بالنسبة لحجمنا وشكلنا. أما (رينيه دوبو) الأمريكي الجنسية الفرنسي الأصل فيقول في أحد كتبه إن الحياة الشاذة التي يعيشها عامة الناس الآن تخنق وتعطل التفاعلات الحيوية الضرورية لسلامة الإنسان العقلية، ونمو الإمكانات الإنسانية. كما يقول: إن كل المفكرين قلقون على مستقبل الأبناء الذين سيقضون حياتهم في بيئات اجتماعية ومحيطية سخيفة عابثة باطلة، نخلقها نحن لهم بدون أي تفكير، وأكثر ما يزعج هو علمنا بأن الخصائص العضوية والفكرية للإنسان تخططها اليوم البيئات الملوثة، والشوارع المتراصة والأبنية الشاهقة، والخليط الحضري المتمرد، والعادات الاجتماعية التي تهتم بالأشياء، وتهمل البشر. ويقول أيضًا: منذ قرنين تقريبًا والإنسان الغربي يعتقد أن خلاصه سيأتي عن طريق الاكتشافات التكنولوجية، ولا جدال في أن المكتشفات التكنولوجية زادت من غناه المادي وحسَّنت صحته العضوية. إلا أنها لم تجلب له بالضرورة الغنى والصحة اللذين يولدان السعادة. أنا متناقض مع نفسي وفي موضع آخر يقول: وتواجهنا العلوم المادية بتناقضات لا حلول لها عندما نحاول فهم حدود الفضاء، أو بدايات الزمن، أضف إلى ذلك أن الإنجازات العلمية تثير - بصورة عامة - مسائل أخلاقية يعتبرها كثير من العلماء خارج نطاق كفاءاتهم، ويشيرون إلى أن العلم والتكنولوجيا أدوات ووسائل ليس لها أخلاق، ويمكن استعمالها لخير البشرية أو لدمارها. والاعتقاد بأن العلم قادر على حل أكثر المشاكل العلمية أمر يكذبه الوعي المتزايد بأن تكنولوجيا العلم تثير مشاكل جديدة في محاولاتها لحل المشكلات القديمة. إن الحضارة الغربية لم تجن على الإنسان وحده، لقد جنت على البيئة من حوله، فلوثتها بدخان مصانعها، و فضلاتها، وآثار إشعاعها، ونفاياتها النووية، وتدخلاتها الكيماوية في النبات والحيوان، وأكثر من ذلك الضغط النفسي جراء الجري وراء الشهرة والمال. وقد بدأت هذه النتائج تبدو للعيان في مثل الاضطرابات النفسية وغيرها من المشكلات، وما يكنه الغد أشد وأقسى. خاتمة.. إن الغرب قد استخدم منجزات تقدمه المادي في الخير والشر، والنفع والضر، والحياة والموت، ولم يبال أن يجعل من منتجاته أدوات للتدمير وإهلاك البشر. فلا نتصور أن يكون أحد هذه فلسفته، وهذا نهجه، وهذه روحه، وهذه منجزاته، أن يكون سببًا في سعادة البشر، و أن يقوم بدور المنقذ لما يعانون من شقوة في حياتهم، بل لعله خ كما ذكر علماؤه أنفسهم خ من أسباب تعاستهم، وفراغهم الروحي. المصدر: الانترنيت-الإنسان ذلك المجهول لألكسييس كاريل إعداد:عبد الغني بلوط