الحركة الإسلامية المعاصرة تواجه تحديات كثيرة من جميع الأشكال وبجميع الأوزان الثقيلة والخفيفة والمتوسطة، تحديات من داخلها ومن ذاتها، وتحديات من خارجها. من محيطها القريب والبعيد. وقد لا يستقيم ولا يسلم لنا القول بأن التحدي الأكبر والأخطر هو التحدي العلمي، وهو المسألة العلمية، باعتبار أن كثيرا من المسلمين ومن العلماء والدعاة ومن الدول الإسلامية وشعوبها، إنما هم غارقون في تحديات سياسية واقتصادية وإعلامية وحزبية، وغارقون في نزاعاتهم وصراعاتهم المذهبية والحزبية والطائفية، فهي التحديات المخيمة على دنيا المسلمين بظلماتها ومآسيها وآثارها المدمرة على الأفراد والجماعات والدول والشعوب. وحتى على مستوى التدين والسلوك الفردي، فإن المسلم في الغالب ينقصه العمل بالدين أكثر مما ينقصه العلم به. بل قد يقال: هاهم حتى بعض العلماء والدعاة والمنتسبين إلى العلم الشرعي، هم أنفسهم مع لهم من علم جزء من المشاكل والفتن والنزاعات والتحديات التي يعاني منها المسلمون. فهم سبب من أسبابها وطرف من أطرافها. فمشكلة هؤلاء، ومشكلتنا معهم، ليست في غياب العلم، وهنا قد يقفز من يقول: إن المشكلة الأساسية والتحدي المركزي إنما يتمثل في غياب التربية أو نقصانها... إن حسم هذا النقاش والجواب على ما في ضمنه من تساؤلات، هو نفسه عمل علمي قبل كل شيء، ويؤكد أننا بحاجة إلى العلم أولا. ومما يدعو إلى العجب والإعجاب أن الإمام البخاري رضي الله عنه قد افتتح كتابه العظيم بموضوع الوحي والإيمان، ثم أتبعه مباشرة بموضوع العلم (كتاب العلم). ومن أبواب هذا الكتاب بابه العاشر الذي قال فيه: باب العلم قبل القول والعمل، لقول الله تعالى (فاعلم أنه لا إله إلا الله) فبدأ بالعلم، وإن العلماء ورثة الأنبياء...< فكأنه رحمه الله أراد أن يقول: بعد الإيمان بالوحي تأتي الحاجة إلى العلم قبل أي شيء آخر، دون أن يغيب عنا أن الإيمان بالوحي هو نفسه علم ويحتاج إلى العلم. على أن أهمية العلم وأولوية المسألة العلمية لا تقف عند كون العلم قبل القول والعمل أي أننا نحتاج إلى العلم قبل الدخول في العمل، وإنما تتجلى أكثر من ذلك في مسيس الحاجة إلى العلم أثناء العمل وبعد العمل، وذلك من أجل مواجهة إشكالات العمل وتحديات العمل ومنزلقات العمل ومتطلبات العمل ونتائج العمل ومآلات العمل... بعبارة أخرى: إذا كنا نحتاج إلى العلم قبل العمل مرة واحدة، فنحن نحتاج إلى العلم أثناء العمل وبعد العمل مرات ومرات. وإذا استحضرنا أن الحركة الإسلامية خاصة تواجه من الإشكالات والتحديات ما لا أجد له من الأوصاف أقل مما جاء في بعض الأحاديث فتن كقطع الليل المظلم وأن هذه الفتن تحتاج من العلم والفهم والتبين أكثر مما تحتاج من العمل والتضحية والجهاد، إذا استحضرنا هذا علمنا مرة أخرى ثالثة أو رابعة أننا بحاجة إلى العلم أولا ومن الكلمات المضيئة الملهمة في هذا المعنى، ما روي عن الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، حيث قال لأصحابه وتلاميذه أنتم اليوم في زمان خيركم فيه المسارع. وسيأتي بعدكم زمان يكون خيركم فيه المتثبت المتبين< (عن المدخل لابن الحاج 4/286) فحيث تشتد الفتن والشبهات وتتعقد الإشكالات وتتلاحق المستجدات، يكون أفضل الناس المتثبت المتبين أي صاحب البصر والنظر، وصاحب العلم والفهم، بخلاف حين تكون الأمور بسيطة واضحة بينة، فخير الناس حينئذ أكثرهم عملا وأسرعهم مبادرة وأسبقهم إنجازا وتنفيذا، ولاشك أن حاجتنا اليوم هي إلى الصنف الأول أولا، ولا غنى لنا عن الصنف الثاني ثانيا. ولكي يكون العلم والعمل العلمي جزءا أساسيا من الحل، ولا يكون جزءا من مشاكلنا وتحدياتنا، فإن علينا أن نناقش ونصحح ونحسم كثيرا من قضايا العلم مفهوما ومقصودا ومنهجا. وعلينا أن ندرك جيدا مواطن الخلل والزلل في ذلك كله. ويحضرني هنا الكتاب القيم الطريف للعلامة أبي الفرج عبد الرحمان بن الجوزي رحمه الله، وهو كتاب (تبليس إبليس) حيث ذكر فيها وحلل مظاهر الالتباس والتلبيس التي تقع فيها كل طائفة أو فئة من الناس، من أهل مختلف الديانات والمعتقدات من مسلمين وغير مسلمين، ومن الصوفية والعباد والزهاد، والأدباء والشعراء، والحكام والعوام... ولعل أطرف ما فيه وأعجبه هو بابه السادس المخصص لذكر تلبيس إبليس على العلماء في فنون العلم<. فها هم العلماء أيضا وفي مجالهم العلمي ومجالهم التخصصي يصبحون واقعين تحت طائلة التلبيس! فيا علماء الدين يا ملح البلد من يصلح الملح إذا الملح فسد ولاشك أن ما ذكره ابن الجوزي من تلبيسات إبليس على أصناف العلماء في علومهم وتخصصاتهم، إنما هي نماذج من زمانه، قد تكون باقية كلها أو بعضها إلى زماننا وعلماء زماننا وقد لا تكون، ولكن المؤكد أن التلبيس لا حد لتناسله وتشكله. إن الجميع اليوم وقبل اليوم يتفقون على تمجيد العلم، وعلى المكانة الجليلة والرفيعة التي أعطاها الإسلام للعلم والعلماء، وصغارنا قبل كبارنا يعرفون ويحفظون أن طلب العلم فريضة على كل مسلم، وأن العلم نور والجهل عار... فكل هذا لا غبار عليه ولا إشكال فيه عند أحد، والإشكالات والاختلالات لا تكون عادة في أصول المبادئ ورؤوس المسائل، وإنما في تصور حقيقتها وترتيب أولوياتها وضبط قواعدها وتطبيقاتها... أحمد الريسوني يتبع