ذكرت في الحلقة الماضية أن (مقاصد الشريعة) التي نتحدث عنها، يدخل فيها ثلاثة مستويات، أو ثلاث دوائر هي: 1. دائرة المقاصد الكلية العامة. 2. دائرة المقاصد الخاصة (أو الوسطى). 3. دائرة المقاصد الجزئية. وفيما يلي بيان لهذه الدوائر الثلاث: ➀ الدائرة الأولى: هي دائرة المقاصد الكلية لعموم الشريعة ومجمل المقاصد العامة للشريعة لا يخرج عما ذكر من قبل، وهو: جلب المصالح: الفرديةِ والجماعية، المادية والمعنوية، الحالية والمآلية، الظاهرة والخفية، الدنيوية والأخروية. ومعلوم أن جلب المصالح يستدعي درء المفاسد التي تعارضها أو تؤدي إلى الإضرار بها. ولذلك فكل مصلحة تُجلب، توجد في مقابِلِها مفسدة أو مفاسد تُدفع. فهذه هي مقاصد الشريعة في مجملها. ثم تندج في هذه الدائرة العامةِ مقاصدُ كلية كبرى، من أبرزها الضرورياتُ الخمس، التي سأعود لاحقا لبيانها؛ وهي: الدين والنفس والنسل والعقل والمال. وإنما اعتُبِرت هذه الضروريات الخمسُ مقاصدَ كليةً، لأن غيرها من المقاصد والمصالح الشرعية مندرج فيها، أو متفرع عنها، أو خادم لها. ثم تأتي بعدها مقاصد عامة أخرى، كإقامة العدل، وعمارة الأرض، وحفظ الأمن والوئام، وتزكية النفوس، وإخراج المكلفين من سلطان الهوى إلى سلطان الشرع والعقل. ومقاصد الشريعة في هذه الدائرة هي المسماة: (المقاصد العامة). وهي المقاصد التي ثبتت رعايتها في كل أبواب الشريعة، أو في معظمها. ➁ الدائرة الثانية: هي دائرة (المقاصد الخاصة) والمراد بالمقاصد الخاصةِ المقاصدُ المرعيةُ في مجال معين من المجالات التشريعية، فتكون الأحكامُ الشرعية في هذا المجال مبنيةً على مراعاة تلك المقاصد وحائمةً حول تحقيقها وخدمتها، كأنْ نقول مثلا: مقاصد العبادات هي تعظيم الخالق سبحانه، والارتباط الدائم بين العبد وربه، وتزكيةُ النفوس وتغذية القلوب... فأحكام العبادات أساسها ومناطها تحقيق هذه المقاصد. وعلى هذا النحو يمكن الحديث عن: مقاصد الشريعة في أحكام الأسرة، ومقاصد الشريعة في المعاملات المالية، ومقاصد الشريعة في مجال التبرعات، ومقاصد الشريعة في مجال العقوبات، ومقاصد الشريعة في مجال الولايات العامة، ومقاصد الشريعة في أحكام العادات والآداب الاجتماعية... (انظر القسم الثالث من كتاب (مقاصد الشريعة الإسلامية) لمحمد الطاهر بن عاشور). وقد نضيق الدائرة، فنتحدث عن مقاصد الصلاة، ومقاصد الزكاة، ومقاصد الزواج، ومقاصد الجهاد، ومقاصد أحكام المواريث... ➂ الدائرة الثالثة: هي دائرة (المقاصد الجزئية). وهي المقاصد الخاصة بكل حكم من أحكام الشريعة، على حدته. فمقاصد الأحكام الجزئية منفردة، هي أيضا مما يدخل في مسمى (مقاصد الشريعة)، بل هي الأساس الأول الذي من خلاله وبواسطة الاستقراء والربط نتوصل إلى معرفة المقاصد العامة والمقاصد الخاصة. والحكم الشرعي الواحد قد يكون له مقصد واحد، كالأمر بالإشهاد في العقود وبعض المعاملات، مقصوده التوثيق المانع من التجاحد والتنازع، وكالحث على نظر الخاطب إلى من يريد خطبتها، ومثله نظر المخطوبة إلى خاطبها، مقصوده حصول الميل والرغبة والقبول، قبل الإقدام على الزواج. وقد يكون للحكم أكثرُ من مقصد، كعِدَّة المرأة المطلقة؛ يُقصد بها التثبت من الحمل أو عدمِه، وتأمينُ السكنى والنفقة للمطلقة طيلة فترة عدتها، ويُقصد بها أيضا كبحُ الأزواج عن استسهال الطلاق والتسرع في حسمه وإنفاذه. وأيضا: لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا، فتكون مدة العدة فرصة للمراجعة والتراجع والتصالح بين الزوجين. وكالأذان شرع لدعوة المصلين إلى صلاة الجماعة، وللإعلام بدخول الوقت، ولذلك يسمى نداء، ويسمى أذانا. وكتحريم المسكرات: له مقاصد عديدة، منها: حفظ العقول، وحفظ الأبدان، وحفظ الأموال، وحفظ أداء العبادات والواجبات، وتلافي فساد العلاقات والمعاملات. فكل هذه المقاصد وأمثالها هي مقاصد جزئية. ويتلخص عندنا مما سبق أن الحديث عن مقاصد الشريعة يقع على ثلاثة مستويات : المقاصد العامة، والمقاصد الخاصة، والمقاصد الجزئية. ومعلوم أن المقاصد الجزئية تندرج حتما في دائرة المقاصد الخاصة. وهما معا (أي الجزئية والخاصة) مندرجان في دائرة المقاصد العامة. فالمقاصد الخاصة تتشكل من المقاصد الجزئية، والمقاصد العامة تتشكل من المقاصد الخاصة والمقاصد الجزئية معا.