أدى التغيير الحاصل على مستوى الحياة الاجتماعية والاقتصادية، وتعدد الحاجات إلى البحث عن مصادر للتمويل من شأنها تلبية مختلف الطلبات التي تعرف تزايدا مطردا، خصوصا في ظل اكراهات التنمية وارتباطها بالمتغيرات المعاصرة . وفي ظل غياب مؤسسات اقتصادية إسلامية تستجيب لحاجيات الأفراد والمؤسسات وتمكنهم من تحقيق مطالبهم، ودعم مشاريعهم التنموية، أصبح التساؤل المطروح بشكل ملح يتمحور حول مدى جواز التعامل بالفائدة بحجة الضرورة بناء على قاعدة « الضرورات تبيح المحظورات». فقه الضرورة لقد اختلفت اجتهادات العلماء وتباينت مواقفهم بخصوص مدى تحقق الشروط والضوابط الفقهية المبيحة للتعامل بالربا ، فمنهم من أفتى بالجواز بحكم غياب بنوك إسلامية وقياسا على بعض الدول الغربية ، ومنهم من تحفظ بخصوص هذه المسألة واكتفى بالتعقيب على الحكم السابق دون التماس بدائل شرعية، مع العلم أن مثل هذه المسائل لها صلة وطيدة بقضايا الأمة وبالتحديات التي تواجهها . وعلى الرغم من أهمية الاجتهادات الفقهية التي تبحث في مجال المعاملات المالية الربوية ، وتحدد الشروط التي ينبغي تحققها لإباحة الفوائد بحجة الضرورة الشرعية ، فإنها لا تمثل مخرجا يسع مختلف الحالات ويستجيب لمختلف المتطلبات، خاصة في ظل تعدد الحاجات، وتنوع المجالات التي هي في أمس الحاجة إلى تمويلات كافية . فالضرورة من الناحية الشرعية ترتبط بما فيه خطر مؤكد أو مشقة شديدة قد تؤدي بالإنسان إلى الهلاك ، ومن ثمة عرفها الإمام الدردير – وهو فقيه مالكي – بأنها « الخوف على النفس من الهلاك علما أو ظنا « .(الشرح الكبير2/115) كما عرفها الدكتور وهبة الزحيلي بقوله :» الضرورة هي أن تطرأ على الإنسان حالة من الخطر أو المشقة الشديدة بحيث يخاف حدوث ضرر أو أذى بالنفس أو بالعضو أو بالعرض أو بالعقل أو بالمال وتوابعها «(نظرية الضرورة الشرعية.ص: 67). وبناء عليه فالضرورة تعتبر من الناحية الشرعية استثناء وليست قاعدة عامة ، كما أنها تمثل مخرجا شرعيا في حالات خاصة ووفق ضوابط محددة تستفاد من نصوص شرعية، منها قوله تعالى:» فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه إن الله غفور رحيم» (جزء من الآية 173. سورة البقرة) وقوله أيضا :» فمن اضطر في مخمصة غير متجانف لاثم فإن الله غفور رحيم» . ( جزء من الآية 3. سورة المائدة) . من أجل ذلك لا يمكن أن نتصور الضرورة بديلا شرعيا يشمل مختلف الحالات سواء المرتبطة بالأفراد أو المؤسسات لإباحة التعامل بالفائدة ، فلا يستساغ شرعا أن ننزل هؤلاء جميعا منزلة الجائع الذي يكون في مخمصة فيضطر إلى أكل الميتة أو ما شابهها من المحرمات ، وإنما الضرورة هي استثناء روعي فيه رفع الحرج ودفع المشقة الشديدة . كما يلاحظ أن ما أبيح من باب الضرورة لا يدخل ضمن الطيبات و إنما هو من المحرمات التي رخص فيها الشرع تخفيفا على المكلف الذي يجب عليه أن يتحقق من ضوابط الضرورة ويستفسر بخصوصها، وأن يسعى جاهدا إلى رفع أسبابها وعدم الركون إليها في حدود طاقته . ومن أهم ضوابط الضرورة أن تكون محققة وواقعة لا متوهمة ، وأن تكون ملجئة بحيث يجد المكلف نفسه في حالة يخشى فيها الهلاك على نفسه في حالة تركه للمحظور ، كما ينبغي أن تقدر الضرورة بقدرها، وألا يكون لدفع الضرر وسيلة إلا ارتكاب ما هو محظور ومحرم شرعا . ومفاد الشرط الأخير بخصوص الفوائد الربوية أنه لا يمكن تصور الضرورة الملجئة إلى التعامل بالربا إلا إذا تم الافتراض بان الإسلام لم يضع بديلا لذلك . ولاشك أن هذا الأمر غير وارد أصلا لان الإسلام لما منع التعامل بالربا واعتبره محرما، فتح أبوابا كثيرة للتمويل والاستثمار من خلال تشريعه لعقود مختلفة مثل المضاربة و المشاركة ثم الإجارة والمرابحة والسلم، بالإضافة إلى تشجيعه للقرض الحسن وفرضه للزكاة باعتبارها عبادة مالية و أداة للتنمية . تفعيل مؤسسات الاقتصاد الإسلامي ومن المنطلق السابق تبدو أهمية تفعيل الصيغ والعقود الشرعية من خلال الانفتاح على المالية الاسلامية بمختلف مكوناتها التنظيمية والمؤسساتية ، والعمل على صياغة جملة من القوانين التي تسمح لهذه المؤسسات المالية كالبنوك الاسلامية بتقديم خدمات متنوعة تمويلا واستثمارا، و تأخذ بعين الاعتبار طبيعة عملها والخصوصيات المرتبطة بها . فعلى سبيل المثال يتوقف الأداء الفعال للبنوك الاسلامية على وجود نظام تشريعي مرن يكفل تحقيق نوع من التقارب أو المواءمة بين السياسة النقدية التي يمارسها البنك المركزي على مختلف البنوك باعتباره أعلى سلطة نقدية في الدولة ، وبين الطبيعة الخاصة للبنوك الاسلامية خصوصا في مجال تحديد نسبة الاحتياطي النقدي ونسبة السيولة أو في إطار وظيفة المقرض الأخير التي يقوم بها البنك المركزي من خلال مساعدته للبنوك التجارية التي تعاني من عجز أرصدتها النقدية عن مقابلة طلبات الدفع . بالإضافة إلى ذلك لابد من دعم هذه المؤسسات المالية بأطر مؤهلة تجمع بين المعرفة الشرعية والخبرة العملية، دون إغفال جهاز الرقابة الشرعية الذي يحرص على ضمان شرعية المعاملات من خلال المتابعة والتقويم ، إذ انه يمثل مدخلا أساسيا لثقة الناس في هذه المؤسسات المالية وطمأنتهم من خلال التأكد من أن أموالهم تستثمر بالفعل فيما يرضي الله ورسوله. ومما لاشك فيه أن الانفتاح على مؤسسات الاقتصاد الاسلامي وتفعيلها بشكل ايجابي سيقدم قيمة مضافة للاقتصاد الوطني، ويشجع على الاستثمار وتمويل المشاريع وتحقيق تنمية مستدامة تراعي مختلف شرائح المجتمع. فالزكاة على سبيل المثال أداة محفزة على الإنتاج ومحاربة الاكتناز، ذلك لأنها لا تقتصر على سد احتياجات الفقراء وتلبية مطالبهم على المستوى المعيشي، وإنما تتجاوز ذلك لتصبح أداة رئيسة لتشجيع الاستثمار وتوسيع القاعدة الإنتاجية بالنسبة لذوي المهن والحرف . وقد اتفق فقهاء الإسلام من السلف والخلف على أن الزكاة ينبغي أن يخصص جزء منها لفائدة العاجزين عن العمل لمرض أو عاهة أو كبر في السن ، وذلك مساعدة لهم على تلبية حاجياتهم الاستهلاكية، وأن يخصص الجزء الآخر منها للجانب الاستثماري والرفع من قيمة رأس المال البشري، بحيث يصبح قادرا على استثمار الثروات الطبيعية وأداء الخدمات الضرورية للتنمية . أما بالنسبة للبنوك الاسلامية فهي تعتمد على أدوات توظيف وصيغ تمويل شرعية متنوعة تستجيب لمختلف الحاجيات، فعقد القراض مثلا يعتبر نظاما يلتقي فيه رأس المال مع الجهد الإنساني في إطار عمليات استثمارية قائمة على أساس المشاركة في الغنم والغرم . وتمثل المرابحة بديلا حقيقيا للقروض الربوية التي تتعامل بها البنوك التقليدية، فهي تعتبر بالنسبة للمتعاملين أداة مهمة لتمويل احتياجاتهم سواء كانوا أفرادا أو مؤسسات، إذ تتيح لهم فرصة الحصول على السلع والآلات والمعدات التي يرغبون فيها ، وتعجز عنها إمكانياتهم، إضافة إلى ذلك فهي تسد احتياجات الصناع والتجار الذين لا يرغبون في الدخول مع المؤسسة البنكية في المشاركات ولا يتحمسون لهذه الصيغ، . أما عقد السلم الذي هو بيع موصوف في الذمة حيث يتم فيه تعجيل الثمن وتأخير المثمن ، فهو يحقق مصلحة الممول الذي هو المسلم إليه بإمداده بالمال اللازم له في زراعته وصناعته وتجارته، كما يحقق أيضا مصلحة الممول ممثلا في البنك الإسلامي من خلال حصوله على السلع التي يريدها بأثمان رخيصة ومشروعة ، وبالتالي يحقق أرباحا لنفسه، وفي الوقت نفسه يشارك في رفع مستوى الناتج المحلي والإجمالي في المجتمع الإسلامي. كما يتيح هذا العقد للمنتجين إطارا تمويليا أرفق من التمويل الربوي من حيث إنه لا يضيف إلى رأس المال التكلفة التي تضيفها الفائدة من جهة، ومن جهة أخرى يريحهم من تكلفة تسويق منتوجاتهم. الصيرفة الاسلامية وبخصوص الإجارة المنتهية بالتمليك فهي وسيلة تمويلية تجمع بين عقد الإيجار والذي يكون ابتداء وعقد البيع الذي يكون انتهاء وتحظى هذه الصيغة بمجموعة من الخصوصيات بالنسبة لطرفي العقد معا. فبالنسبة للمؤجر الذي قد يكون بنكا على سبيل المثال ، فإنها تمكنه من توظيف جزء من أمواله من خلال أسلوب قليل المخاطر مقارنة مع أسلوب المشاركة أو المضاربة، حيث يحصل على إيراد مستقر ومستمر طيلة فترة التعاقد، كما أنه يمثل أيضا ضمانا قويا له بحكم احتفاظه بملكية الأصل. وبالنسبة للمستأجر فإن هذه الصيغة التمويلية تمكنه أولا من تلبية وتحقيق حاجياته باعتماد أسلوب شرعي يحل محل الاقتراض بفائدة، وذلك من خلال « حيازة الأصول الرأسمالية اللازمة لنشاطه دون حاجة إلى تخصيص جزء من أمواله لشرائها مما يتيح له سيولة أكبر ، وبالتالي فرصة أوسع في توظيف أمواله في أوجه أنشطته الأخرى مما يعني تحقيق المزيد من الاستثمارات.». ( د. نزيه حماد، معجم المصطلحات الاقتصادية في لغة الفقهاء ص:29). ومن الحقائق الثابتة أن الصيرفة الاسلامية أصبحت صناعة رائدة في وقتنا المعاصر، فقد تمكنت من تجاوز مرحلة إثبات الذات إلى مرحلة العطاء المتميز، واستطاعت تحقيق معدل نمو مرتفع بحكم تميز مبادئها وفلسفة عملها . فهي تجمع بين أصول الشريعة ومقاصدها من خلال امتناعها عن التعامل بالربا وعن نظام المشتقات المالية القائمة على الغرر والقمار ومختلف أساليب الغش و الاحتكار. و بالمقابل من ذلك تعتمد على مبدأ المشاركة الفعلية في إطار تداول المال من خلال عمليات حقيقية توظف التمويل في توليد الثروة ورفع الإنتاجية. كل هذه المميزات جعلت من الصناعة المالية الاسلامية محط اهتمام على الصعيد العالمي، ولا أدل على ذلك انفتاح الغرب على التمويلات الإسلامية، والإشادة بأهمية الاقتصاد الإسلامي ودوره في تعبئة الموارد المالية، واستثمارها بشكل ايجابي وبمنأى عن المخاطر أو الأزمات الاقتصادية والتي تعصف من حين لآخر بكثير من اقتصاديات الدول التي تعتمد النظام الرأسمالي على وجه الخصوص.وقد لوحظ في الفترة الأخيرة تنافس كبير وانفتاح متواصل من قبل كثير من الدول الغربية مثل فرنسا وابريطانيا والولايات المتحدةالأمريكية واليابان من أجل فسح المجال أمام التمويلات الإسلامية . انتفتاح مغربي على التمويلات البديلة وبالنسبة للمغرب وكما هو معلوم فقد عرف في الفترة الأخيرة انفتاحا على بعض التمويلات البديلة، والتي على الرغم من أهميتها إلا أنها تجابه تحديات كثيرة سواء على المستوى الضريبي أو الإعلامي. بالإضافة إلى محدودية أدائها وافتقارها إلى آليات شرعية تضمن سيرها الصحيح لطمأنة المتعاملين معها . من ثمة إذن تأتي أهمية الانفتاح على مؤسسات مالية إسلامية تكون في مستوى تطلعات الأفراد والمؤسسات، وتساهم في رفع جانب من التحديات الاجتماعية والاقتصادية القائمة . وفي هذا السياق لابد من الإشارة إلى أن ثمة جملة من المؤشرات القوية والايجابية التي توحي بإمكانية الانخراط الفعلي لإقامة مؤسسات الاقتصاد الإسلامي والتي يمكن تلخيصها فيما يلي : -التقرير الذي أنجزه مجلس القيم المنقولة بالبورصة بتاريخ 19 اكتوبر2011 حول الاقتصاد الإسلامي والذي تضمن دعوة إلى ضرورة « التفكير بجدية في جميع أنحاء البلاد لتحليل ودراسة المتطلبات الأساسية لإنشاء المستوى التنظيمي والمؤسساتي للاستفادة من التطور الذي يعرفه الاقتصاد الاسلامي في القرن الحادي والعشرين» (خالد مجدوب . المغرب يقترب من الترخيص لأبناك إسلامية . جريدة التجديد.ع : 2759) - ورشة عمل التي نظمها بنك المغرب بتعاون مع مجلس الخدمات المالية الاسلامية حول التمويل الإسلامي في أواخر شهر أكتوبر من هذه السنة ، والتي تأتي في سياق الانفتاح على التمويل الاسلامي . - المجهودات العلمية المتواصلة التي تقوم بها الجمعية المغربية للدراسات والبحوث في الاقتصاد الإسلامي من خلال تشجيع البحوث والدراسات الاقتصادية النظرية والتطبيقية من المنظور الاسلامي، وتنظيم محاضرات و ندوات علمية في مجال الاقتصاد الاسلامي . وللإشارة فقد تم عقد ندوة علمية تفاعلية تحت عنوان «حوار مفتوح حول الاقتصاد الإسلامي والتمويلات البديلة بالمغرب» في منتصف غشت 2011، بكل من الرباط وسلا والدار البيضاء وقد حظيت بإقبال كبير للمشاركين وبتغطية عدة مؤسسات إعلامية. - الحدث التاريخي البارز الذي عرفه المغرب في إطار الاستحقاقات الانتخابية الأخيرة بتاريخ 25 نونبر 2011 والتي أفرزت فوزا كبيرا ومستحقا لحزب العدالة والتنمية . وكما هو معلوم فان أطر الحزب ساهمت بشكل كبير في إخراج فكرة التمويلات البديلة إلى حيز الوجود، كما دعمت فكرة إنشاء مؤسسات اقتصادية إسلامية . وبالرجوع إلى البرنامج الانتخابي الذي وضعه الحزب نجد أن من أهدافه الكبرى بناء اقتصاد وطني قوي وتنافسي وضامن للعدالة الاجتماعية، وذلك من خلال القيام بجملة من الإجراءات منها: « اعتماد إطار استراتيجي للتنمية الاقتصادية والاجتماعية ... ودعم الاقتصاد الحقيقي وإنهاء اقتصاد الريع والاحتكار والهيمنة... واعتماد نظام تمويلي تشاركي بإدخال المنتجات الاسلامية وتفعيل الدور التنموي للبورصة « (جريدة التجديد .ع: 2758 حوار مع الدكتور محمد نجيب بوليف ) . وخلاصة القول فإن الانفتاح على المالية الاسلامية واعتماد البدائل الشرعية تمويلا واستثمارا وكذا تفعيل فريضة الزكاة في إطار مؤسساتي، سيساهم بشكل فعال في دعم الاقتصاد الوطني وتنميته، وتشجيع الاستثمار وتحقيق العدالة الاجتماعية والتخفيف من حدة الفقر والبطالة ، لكن شريطة رفع التحديات على مستوى التنزيل الصحيح والتفعيل الايجابي لهذه المنتجات الاسلامية، وذلك من خلال توفير الإطار التنظيمي الأنسب ، ودعمها عمليا وإعلاميا، ثم إنشاء آليات للرقابة وتأهيل الموارد البشرية ، وكذا الاهتمام بتطوير إغناء الدراسات الشرعية والاقتصادية المرتبطة بهذا المجال المعرفي . عضو الجمعية المغربية للدراسات والبحوث في الاقتصاد الإسلامي