يحتاج الإنسان في كل لحظة إلى مراجعة لذاته وممارسة نقد ذاتي فعال لكثير من سلوكاته وأفعاله ومواقفه وتوجهاته، وهي عملية متأصلة في ديننا الحنيف، وسار عليها سلفنا الصالح، تقوم على المراقبة والمحاسبة والتصويب في كل عمل ينجز. وإذا كان هذا حال الفرد، فما بال جماعة المسلمين، والحركات الإسلامية العاملة في الميدان، فهي أولى بمراجعة أفكارها وأعمالها وإنجازاتها في كل لحظة وحين، خاصة هذه الأيام التي تمر منها الأمة الإسلامية بظروف عصيبة، حتى لا تكون هي من ضمن أسباب الفواجع التي تحيط بالأمة من كل جانب. وفي هذه الصفحة سنقدم كل أسبوع مقالات متميزة لمفكرين إسلاميين حول موضوع ترشيد الصحوة الإسلامية. الدعائم الفكرية في فقه الاختلاف.. تحديد المفاهيم والمصطلحات من الأمور المهمة لتقريب شقة الخلاف بين المسلمين عامة وبين الفصائل العاملة للإسلام خاصة: تحديد (المفاهيم) التي يقع فيها النزاع، وبيان مدلولها بدقة ووضوح، يرفع عنها الغموض والاشتباه. فكثيرا ما يحتد النزاع حول معنى أو مفهوم معين، لو حدد بدقة وشرح بجلاء لأمكن للطرفين أن يلتقيا عند حد وسط. ومن ثم كان علماؤنا السابقون يحرصون على (تحرير موضع النزاع) في المناظرات والخلافيات، حتى لا تنصب معركة على غير شيء. وكثيرا ما يشتد الخلاف بين فريقين، ويثور العجاج بينهما، ثم يتبين في النهاية أن الخلاف كان لفظيا، وأن لا ثمرة عملية تجنى من ورائه. إن الخوارج الذين كفروا المسلمين قديما، واستحلوا دماءهم وأموالهم، ومن لحق بهم من دعاة التكفير حديثا إنما سقطوا في هذه الحفرة لعدم ضبطهم لمفاهيم ومصطلحات كثيرة وردت في نصوص الشرع، فأساؤوا فهمها، ووصفوا لها مدلولات من عند أنفسهم غير ما أراده الشارع منها، فضلوا وأضلوا. ومن ذلك: مصطلحات الإيمان والكفر، والشرك والنفاق والجاهلية، وما يحوم حول هذه المعاني. فهم لم يميزوا بين استعمالات الشرع المختلفة لهذه الألفاظ، فإنه تارة يريد بها الحقيقة، وطورا يريد بها المجاز. مفهوم الإيمان في القرآن فكثيرا ما يراد بالإيمان في نصوصه في القرآن والسنة: الإيمان الكامل، لا مطلق الإيمان، الذي إذا نفي عن صاحبه فقد كفر. وهذا واضح في آيات الكتاب العزيز، وفي الأحاديث النبوية الصحيحة. فقوله تعالى: (إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم، وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا وعلى ربهم يتوكلون، الذين يقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون. أولئك هم المؤمنون حقا) (الأنفال: 2) إنما يراد بهم المؤمنون الذين كمل إيمانهم، وليس المراد: أن من لم يوجل قلبه من ذكر الله، أو لم يكن من المتوكلين على الله، يكون كافرا خارجا عن أصل الإيمان. ومثل قوله تعالى: (قد أفلح المؤمنون، الذين هم في صلاتهم خاشعون، والذين هم عن اللغو معرضون، والذين هم للزكاة فاعلون. والذين هم لفروجهم حافظون. إلا على أزواجهم أو ما ملكت إيمانهم فإنهم غير ملومين. فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون. والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون. والذين هم على صلاتهم يحافظون. أولئك هم الوارثون) (سورة المؤمنين: 101) فالمراد المؤمنون الكاملو الإيمان، وليس المعنى أن من لم يخشع في صلاته، أو لم يعرض عن اللغو مثلا يكون كافرا، بل هو مؤمن ناقص الإيمان. ومثل ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن لا يعني نفي أصل الإيمان، بل كماله، وليس معناه أن من ارتكب واحدة من هذه الكبائر يكون كافرا كفرا مخرجا من الملة. ولو كان المنفي هنا هو أصل الإيمان لكان كل من هؤلاء مرتدا، وكانت العقوبة في الجميع واحدة وهي عقوبة المرتد، ولم تتنوع العقوبات ما بين جلد ورجم وقطع.. وكذلك الشرك: منه ما هو أكبر، وهو أن يجعل مع الله إلها آخر. وهو الذي يوصف أهله بأنهم (المشركون) أو (الذين أشركوا). وهو الذي أخبر الله تعالى نه بأنه لا يغفر (إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء) (سورة النساء: 116,48). وهذا هو الشرك الجلي، والشرك المطلق، والشرك الحقيقي. وهناك شرك أصغر، يطلق على بعض المعاصي، التي تنافي كمال التوحيد، كما صح ذلك في عدد من الأحاديث. مثل: من حلف بغير الله فقد أشرك. إن الرقى والتمائم والتولة شرك. من علق تميمة فقد أشرك. ومثل ذلك الكفر، منه ما هو أكبر سواء كان كفرا أصليا أم طارئا. فالكفر الأصلي مثل كفر الملاحدة والدهريين الذين يجحدون وجود الله تعالى، أو كفر الذين يؤمنون بالله في الجملة، ويكفرون بالنبوة والرسالة، أو الذين يؤمنون ببعض الرسل دون بعض أو بعض ما أنزل الله دون بعض. اقرأ في ذلك قوله تعالى: (ومن يكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر فقد ضل ضلالا بعيدا) (سورة النساء: 136). (إن الذين يكفرون بالله ورسله، ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله ويقولون: نؤمن ببعض ونكفر ببعض، ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا أولئك هم الكافرون حقا، وأعتدنا للكافرين عذابا مهينا) (سورة النساء: 151,150). (لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم، وقال المسيح يا بني إسرائيل اعبدوا الله ربي وربكم، إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة، ومأواه النار، وما للظالمين من أنصار. لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة، وما من إله إلا إله واحد، وإن لم ينتهوا عما يقولون ليمسن الذين كفروا منهم عذاب أليم) (سورة المائدة: 73,72). والكفر الطارئ هو كفر الردة، وهو الذي يخرج صاحبه من الإسلام بيقين لا يقبل الشك، كأن ينكر معلوما من الدين بالضرورة، أو يعمل عملا لا يحتمل تأويلا غير الكفر، وهو الذي يمكن أن يقال عمن فعله: (قد بدل دينه). ومن الكفر كفر أصغر، وهو الذي قيل فيه: كفر دون كفر، وهو ما يطلق على المعاصي، كما ورد في بعض النصوص، وهو إطلاق مجازي، على معنى أنه قد يقضي إلى الكفر، ويؤول إليه، كما قيل: المعاصي بريد الكفر. أو أنه شبيه بأعمال الكفار، أو المراد: كفر النعمة. وذلك مثل قوله تعالى: (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون) (المائدة: 44). ومثل قوله صلى الله عليه وسلم: سباب المسلم فسوق وقتاله كفر. لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض. بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة. العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر. لا ترغبوا عن آبائكم، فمن رغب عن أبيه فهو كفر. ليس من رجل ادعى لغير أبيه، وهو يعلمه، إلا كفر.. ومن دعا رجلا بالكفر، أو قال: عدو الله، وليس كذلك، إلا حار عليه أي رجع عليه.. ومثل ذلك: مفهوم (الجاهلية) الذي يدور بين الكبائر إذا كان يتعلق بصلب العقيدة وبين صغائر المعاصي، التي تزل بها قدم المؤمن، كقوله صلى الله عليه وسلم للصحابي الجليل أبي ذر: إنك امرؤ فيك جاهلية. ولذا ذكر البخاري في كتاب الإيمان من صحيحه (باب: المعاصي من أمر الجاهلية، ولا يكفر صاحبها بارتكابها إلا بالشرك، لقول النبي صلى الله عليه وسلم إنك امرؤ فيك جاهلية وقول الله تعالى: (إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء) (النساء: 48). إلى غير ذلك من المفاهيم التي يجب تحديدها وتصحيحها وبيانها، حتى لا تلتبس على الناس المعاني، فتضطرب الأحكام. إن تحديد المفاهيم، وتوضيح المصطلحات، وإزالة الغبش واللبس عنها، يقرب المسافة بين المختلفين، وقد يزيل الخلاف من أساسه إذا صدقت النيات. من كتاب: الصحوة الإسلامية بين الاختلاف المشروع و التفرق المذموم (بتصرف)