عبد الحميد أبو سليمان من الوجوه الفكرية المشهورة التي طبعت في الثلاث العقود الأخيرة بصماتها على الفكر الإسلامي، فالرجل بالإضافة إلى كونه من المؤسسين للمعهد العالمي للفكر الإسلامي، ومن الذين تركوا آثارا فكرية وازنة تؤصل للمنهجية الفكرية التي دعا إليها المعهد وتقف بشكل تحليلي معمق عند أزمة العقل المسلم، إلا أنه ظل إضافة إلى ذلك، يمتاز بخاصيتين اثنتين. الأولى، كونه انتقل من البعد النظري إلى فضاء الممارسة، باعتبارها تعكس سلامة العقل النظري أو تعكس اختلاله، ومن ثمة، كانت مبادرته بتأسيس الجامعة الإسلامية لترجمة فكرة إسلامية المعرفة، وهو اليوم إلى جانب الرواد المؤسسين للمعهد بصدد الإعلان عن تأسيس الجامعة الإسلامية ببيروت، أما الخاصية الثانية، فتتمثل في كونه، خلافا للعديد من مؤسسي المعهد ورواده، يخوض في القضايا الإشكالية بنفس فيه كثير من الجرأة، فالرجل يتميز برؤية نقدية عميقة تبرز في العديد من مؤلفاته، لاسيما كتابه حول العنف، وكتاباه الأخيران حول الرؤية الكونية وقضية الإرادة والواجدان، إذ حاول فيهما أن يبرر سبب انعطاف المعهد مؤخرا لقضايا التربية والتعليم. في هذا الحوار يفسر عبد الحميد أبو سليمان سبب الاهتمام بقضايا الوجدان والإرادة ودور الأسرة المركزي في التغيير والدافع إلى طرح قضية الرؤية القرآنية وعلاقة ذلك بمشروع المعهد الذي ركز الاهتمام أكثر على قضية إصلاح الفكر ومنهجية التفكير وأسلمة المعارف. * لوحظ عليكم في المرحلة الأخيرة تحول كبير في مشروعكم؛ من الاهتمام بإصلاح العقل المسلم إلى إفراد قضية التربية والوجدان بالأولوية، هل هذا عارض في مشروعكم، أم هو مؤشر نوعي على حدوث تغير في النظرة والمشروع الفكري الذي كنتم تدعون إليه منذ أكثر من عشرين سنة؟ ** الأمر ليس فيه أي تغيير أو انتقائية، فالذي يقرأ كتاب أزمة العقل المسلم، يجد فيه الإشارة إلى قضية الرؤية والتربية والوجدان. فالإنسان، أي إنسان، فيه جوانب، تؤثر على سلوكه في النهاية، وبالتالي، يجب أن تتعامل معه ككل؛ باعتباره يضم كل هذه الجوانب التي تتفاعل يما بينها. ولكننا لا نبحث كل هذه الأمور دفعة واحدة، وإنما نبحثها جانبا جانبا إلى أن تكتمل الجوانب. فالبداية بأزمة العقل المسلم كانت ضرورية، لأن تصرفات الإنسان يحكمها تفكيره. فكان من الضروري في البداية، أن ندرك ماذا أصاب هذا العقل. الأمة لا تنقصها القيم والمبادئ، فهذه أمور مفصلة في القرآن الكريم، والأمة لا تنقصها الموارد والإمكانات، لكنها مع ذلك ليست فاعلة، وهذا لا يمكن تفسيره إلا خارج أزمة العقل ومنهج التفكير. ولهذا كان لا بد من أن نحاول أن ندرك أين حدث التدهور في الفكر الذي أدى فيما بعد إلى تدهور في السلوك والتربية، ثم أدى إلى انهيار الحضارة العربية الإسلامية. فكان لا بد من البداية بإصلاح الفكر ومنهج التفكير، فإذا استطعت أن تعالج أزمة العقل المسلم وتصلح منهج التفكير، فإنك تستطيع بعد ذلك أن تصلح كل جوانب الاختلال التي مست الجوانب الأخرى. لكن مادام منهج التفكير خطأ، فتصبح النتائج دائما عشوائية. فكان الاهتمام بإصلاح الفكر ومنهجه هو الخطوة الأولى في مشروع إصلاح الإنسان المسلم. الأمر الثاني، هو أنك حتى ولو أدركت من الناحية العقلية البحثة أن هذا الأمر جيد وهذا الأمر سيء، إلا أن هناك أسبابا وجدانية نفسية تدفع إلى أن ينتج هذا السلوك السيء ولا ينتج السلوك الجيد. ومن هنا كان لا بد، ضمن مشروع الإصلاح، من النظر في إصلاح الوجدان حتى يكون ذلك حافزا للمرء على أن ينتج من السلوكات والتصرفات ما يتناسب مع ما يطلبه منه العقل. ولكن، افرض أن منهجك في التفكير صحيح، وأن تربيتك جيدة أيضا، ولكن ليس هناك ما يدفعك إلى أن تفعل شيئا، ولا توجد عندك أي دافعية وإحساس بالحاجة إلى فعل شيء. ومن هنا تطرح ضرورة أن توجد لدى الإنسان ما أسميه بالرؤية الكونية التي تجيب عن الإشكالات المتعلقة بهوية الإنسان والأهداف المؤطرة لفكره وسلوكه. إذا غابت هذه الرؤيةالتي تمنحه الجواب عن مصدر وجوده وغايته في هذا الكون، حينذاك تصبح كل خطاطات فكره وتصرفاته غير ذات معنى، وبدون هدف. ومن ثمة، فالرؤية الكونية تمثل - إن صح التعبير - البنية التحتية التي ترتكز عليها ثقافة الأمة. فإذا أصلحت البنية التحتية، ينعكس ذلك في شكل فاعلية للإنسان تنتج السلوكات الجيدة التي تنبثق من تربية وجدانية سليمة، كما تنتج الأعمال السليمة التي تنطلق من تفكير جيد. إذا صلحت البينة التحتية صلحت الثقافةوالحضارة والعمران. ولذلك، فقد انطلق مشروعنا من إحدى الجوانب المهمة (إصلاح الفكر)، ثم ركز بعد ذلك على جوانب أخرى مهمة (التربيةوالوجدان والرؤية الكونية). وقد بدأنا بالترتيب الذي يجعل هذا الجانب الأول يخدم الذي يليه، حتى ينتهي المشروع وقد لامس كل الجوانب بشكل مكتمل. فالانتقال من جانب إلى آخر، هو ناتج عن تصور مبنى الإنسان ومبنى ثقافتنا الإسلامية، إذ لا يمكن أن أفكر في التربية دون أن أكون قد بدأت بقضية إصلاح العقل ومنهج التفكير، ولا يمكن أن نحقق الفاعلية بمجرد حصول التربية وإصلاح الوجدان، لا بد من الرؤية الكونية التي تدفع الإنسان إلى الفعلوتبرر له الحاجة إلى المبادرة والتحرك للفعل. فقد يكون لي تفكير جيد، وتربية جيدة، ولكن ليس لي دافع ولا قدرة على الفعل. ولذلك، كان مشروعنايتنزل وفق مراحل؛ تأتي كل مرحلة على مكامن الخلل في جانب من الجوانب، ثم تنتقل في المرحلة الأخرى إلى جوانب أخرى تتركب على الجوانب السابقة، لتتحصل في نهاية المطاف، الرؤية الشاملة المتوازنة لإصلاح الإنسان وبناء الثقافة والعمران. * لكن ألا ترى معي دكتور أن المؤسسات التي يرجى منها المساهمة بفعالية في تربية الوجدان وترسيخ الرؤية الكونية، قد اخترقت من الداخل وصارت لها قيم ورؤى أخرى؟ ألا ترى معي أن هذه المؤسسات أصبحت غير قادرة على صناعة الجيل الذي نتطلع إليه؟ ** أنا معك. تعليمنا تعليم سيء ومؤسساتنا التربوية سيئة، لكن عندما يكون عندك المربي الجيد، والأستاذ الجيد والموجه الجيد، فهذا هو المعول عليه لكييتخرج من المؤسسة التعليمية الموظف الجيد والجندي الجيد والكادر الجيد والتاجر الجيد والسياسي الجيد. نحن هنا نتحدث عن التغيير، ولا بد أن نقر بأن التغيير شيء صعب للغاية، ولا يحدث إلا قسرا. السؤال الذي يطرح، هو: كيف يجد الإنسان نفسه مرغما على أن يتغير؟ أنا أشبه المجتمع بالسيارة، لكي تتحرك كل أجزائها لا بد لك أولا من مفتاح التشغيل، فضربة واحدة تنتهي بحتمية دوران كل أجزاء السيارة. فالضربة تتسبب في حصول الاحتراق،والاحتراق يشغل المحرك، والمحرك يدير التروس، وهكذا. السؤال هو: أين هو مفتاح حركة تغيير المجتمع؟ المؤسسة القائمة هي بالطبيعة تنزع إليالمحافظة على الوضع القائم، وأي تغيير يمكن أن يهدد مصالح القوى التي من مصلحتها الحفاظ على الوضع، يتعرض لمقاومة شديدة. أنا أتحدث هنا عنالحكومة والوزارات والمؤسسات الدولية التي من مصلحتها بقاء الوضع على ما هو عليه. المفتاح الأساسي في عملية التغيير هو الوالدان. فهؤلاء بالفطرة،يمارسون عملية التربية على أبنائهم رغم أنفهم وبجد وفاعلية وتعب ونصب. وليس هناك من يستطيع أن يؤثر على تربية الأبناء مثل الوالدين. والتغيير لايكون إلا في الطفولة، ففي هذه المرحلة تتأسس معلوماتك ومعارفك وقناعاتك وكذلك التكوين النفسي والوجداني، وكما قال عليه الصلاة والسلام: خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا، فكلاهما يسلم ويغير توجهه سواء الذي كان في الجاهلية ثم أسلم، أو الذي أسلم ولم يعرف الجاهلية أصلا، لكنالتفاوت هو في التكوين النفسي والوجداني، فالذي تربى في الجاهلية بتكوين نفسي جيد احتاج فقط إلى أن يغير هدفه، فبدل أن يتوجه سلوكه إلى الوجهةالسيئة يوجهه الإسلام إلى الأهداف النبيلة. فهدف التربية وإصلاح الوجدان يتم تحقيقه في الطفولة، ومفتاح الطفولة هما الوالدان. المشكلة عندنا في الوطنالعربي والإسلامي أننا نتوفر على السيارة، ومستعدة للانطلاق، والسائق موجود، لكن الذي ينقص هم المربون والموجهون وأصحاب الفكر والإصلاحيون. ودور هؤلاء، أن يتجهوا أولا إلى إصلاح قضايا الفكر ومنهج التفكير، ثم إصلاح التربية ووجدان الإنسان المسلم، وترسيخ أصول الرؤية الكونية التي توجد الحاجة والمبررات الكافية لأبناء الأمة للفعل والحركة وإطلاق المبادرات. وبالتالي، فأي مشروع تغييري لا يمكن أن ينجح إذا لم يعط لبعد التربوي الدور الذي يستحقه في إصلاح الوجدان. إذا استطعنا أن نصل إلى الوالدين ونقنعهما، لممارسة الدور التربوي الحقيقي المنوط بهما، نكون قدنجحنا نجاحا كبيرا. السؤال هو من يستطيع أن يصل إليهما وكيف؟ التعويل على المدرسة اليوم لإنجاز هذا الدور لم يعد ذا فائدة كبيرة، فالمدرسة اليومأصبحت تهتم بالتعليم أكثر مما تهتم بالتربية، وعائدها في هذا المجال جد محدود، وأحيانا يكون عائدها حتى في الجانب الفكري ضعيفا. ما يجب أن نركز عليه هو المنزل والأسرة. إذا أردنا أن نمارس تغييرا حقيقيا، فينبغي أولا أن نبدأ -كما قلنا سابقا- بالجانب الفكري والمنهجي لإصلاح الأعطاب العميقة التي يعاني منها العقل المسلم، ويجب بعد ذلك أن نهتم بالتربية وإصلاح الوجدان. * تتحدث دكتور عن مركزية الأسرة في التغيير، لكن ألا ترى معي أنه وقعت في الآونة الأخيرة تحولات عميقة ومتسارعة على المستوى الاقتصادي والثقافي، نتج عنها تغير في وظائف وأدوار كل من الرجل والمرأة، وخروج المرأة إلى العمل، وضيق مجال التحاور والتفاعل داخل الأسرة، ودخولالمعامل الإعلامي (الفضائيات والأنترنت) إلى الأسرة. إلى أي حد يمكن أن نراهن على الأسرة لإنجاز مهمة التربية والتغيير، في ظل هذه الوضعية المحكومة بتأثير هذه التحولات؟ ** هذه التحولات حدثت بسببين اثنين: أولا، تحمل الأسرة لعبئ اقتصادي يمنعها من التفرغ لقضايا التربية. المشكلة أننا بدل أن نحل مشكلة الأسرة المادية،ونتيح لها الإمكانات التي تساعدها على التفرغ لمهام التربية والتوجيه وإصلاح الوجدان، أهملنا البعد التربوي الذي تقوم به الأسرة، إذ صار كل همهاهو حل المعضلة الاقتصادية. ولذلك، أول ما ينبغي عمله في هذا الإطار، هو أن نمنع أن تتحول الأزمة الاقتصادية إلى أزمتين؛ أزمة اقتصادية وأزمة تربوية. الأمر الثاني، يتعلق بالجانب التصوري الفكري، فهناك اليوم ثقافة سائدة تدفع الوالدين إلى الاعتقاد بأن الاستهلاك وتوفير الضروريات والحاجيات وربما التحسينيات في أمور المعاش هي مجموع التربية. فمطلوب على هذا المستوى، أن نساهم في تغيير هذه القناعة الخاطئة، وأن نخاطب الآباء بما يعيد الاعتبار لأولويات التربية. لكي نتجاوز هذا العطب؛ بحيث تعود المهمة التربوية التي تصلح الوجدان، ذات أهمية قصوى لدى الأسرة، لا بد من أن يحصل داخل الأسرة تنظيم للعمل بين الرجل والمرأة، بحيث تصير الأمومة والتربية أولوية بالنسبة إلى المرأة، وما فاض من وقتها يمكن أن يستثمر في العمل، بحيث تقضي فترة الخصوبة (81 54) وهي تعطي الأولوية الكبرى للتربية والأمومة، وبعدما تفرغ من هذه المهمة تتوجه إلى العمل لإسعاد كل من حولها. * هذا بالنسبة إلى الأسرة دكتور، ماذا عن الإعلام الذي أصبحت اليوم تؤطره رؤى أخرى وتتداخل فيه مصالح متشابكة، وتتمرر فيه رسائل في الغالب ما تنطلق من رؤية مخالفة للرؤية الكونية التي تتحدثون عنها؟ ** دور الآباء لا ينبغي أن يختفي لحظة استقبال أبنائهم للرسالة الإعلامية. لا بد أولا من توجيه الأبناء إلى مشاهدة البرامج التي تعينهم على اكتساب معارف علمية وثقافية وغرس قيم دينية ووطنية، وتنمية مهارات ربما يحتاجونها في محيطهم الخاص. ولا بد من محاولة صرفهم عن البرامج التي تحمل رسائل خاطئة أو مشوشة أو ربما تتعارض مع القيم التي تم غرسها من قبل الوالدين. الوالد لا بد له من التدخل لحظة استقبال أبنائه للرسالة الإعلاميةالخاطئة، حتى يصدها ويجعلها لا تنفذ وتتمكن من أبنائه. فحضور الوالدين جد ضروري، لاسيما بعد ثورة الفضاء وثورة الأنترنت، فالأم التي ربما تشتغل ثماني ساعات وتعود متعبة، لا ينبغي عليها أن تنسى دورها في التربية ومتابعة أبنائها وتوجيهم إلى حسن استعمال وسائل الاتصال الحديثة. والأب يعيش ربما الظروف نفسها أو أشد. ومن الطبيعي في ظل هذه الشروط أن تقع تجاوزات من قبل الأبناء وألا يكون لدى الآباء القدرة الكافية للتوجيه والمتابعة والتأهيل. المطلوب أن يبذل جهد كبير من قبل المفكرين والتربويين لنشر الأفكار الصالحة ونقد القناعات الخاطئة، ودور الإصلاحيين أن يتصدوا لهذه المعضلة ويولوها اهتماما مركزيا. المشكلة اليوم أن الإصلاحيين منشغلون بقضايا الحكم والسياسة والصراع على السلطة. أؤكد لك، بأن أي إصلاح من أي اتجاه، إذا تحقق من غير النظر في البنية التحتية، سيصل إلى نفس النمط السائد حاليا. لأنه كما تكونوا يول عليكم. ولأن كل من سيأتي من أي اتجاه سيكون همه هو احتكار السلطة. * بناء على تحليلكم، ما هي مهمة الحركة الإصلاحية في هذه المرحلة؟ ** الأولوية التي ينبغي أن توجه لها الحركة الإصلاحية اهتمامها، هي القضية الفكرية التربوية. في مكة، لم تكن للمسألة السياسية والصراع على السلطة أيأهمية في بعثة النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما كانت الأولوية هي المسألة الفكرية والتربوية، من خلال العقيدة ومقتضياتها السلوكية. فلما تمثل الصحابة هذه العقيدة، وعانوا في سبيلها ما عانوا من ابتلاءات وصبر لأزيد من عشر سنوات، حينها أعطيت الانطلاقة. ولذلك، فمهمة الحركة الإصلاحية هو إعطاء الأمة الدليل ماذا تفعل؟ وكيف تفعل؟ والأمة نفسها تقيم مؤسسات تدير سياساتها وتعل ما تشاء بناء على قناعاتها، وليس المطلوب هو أن تصير لي السلطة لأفعل ما أشاء، لأن السلطة وحدها لن تمكنك في نهاية المطاف أن تغير الأمة، وستكون مضطرا في الأخير إلى التكيف وإنتاج نفس أنماط السلوك في الحفاظ على المواقع والمصالح واحتكار السلطة كما كان يفعل الآخرون من قبل. * كنتم دائما في مشروعكم في المعهد العالمي للفكر الإسلامي تقولون؛ إن المشكلة ليست في القيم، قيم الأمة الخالدة معصومة، وإنما المشكلة في أزمة العقل المسلم وفي منهجية التفكير. لكن ألا ترى معي أن هناك تدافعا قيميا حادا يجري اليوم بسبب سياسة الغرب الهيمنية، التي تسعى إلى فرض منظومتها القيمية وإزاحة القيم الإسلامية من ساحة الوجود. بل حتى على صعيد المرجعية، هناك يبرز تدافع قوي هدفه تكسير الإجماع حول هذه المرجعية وإبعادها عن تمثيل المرجعية العليا للبلدان العربية الإسلامية؟ ** الناس لها عقول. فلو أننا أجدنا طرح قيمنا ومرجعيتنا الإسلامية، فالدول الغربية بالتأكيد لن تستطيع أن تغلبنا في معركة التدافع. ثانيا، عندك قطبان فيالوجود بالنسبة إلى الإنسان: عالم الروح وعالم المادة. بالنسبة إلى عالم الروح والقيم، يمثل العدل الجوهر. فهناك قانون العدل، وفي مقابله هناك قانونالغاب، هناك القوة للحق، وهناك الحق للقوة في المقابل. فقبل أن تنفخ في الإنسان الروح، كان طينا، أي قبل قانون الحق هناك قانون الغاب، ولذلكالملائكة نظروا إلى الإنسان، باعتباره حيوانا شرسا لما نظروا إلى أصل خلقته فقالوا لله عزل وجل: أتجعل فيها من يفسد فيها ويسك الدماء. ولذلك ذكرالقرآن أن الله عزل وجل خلق الإنسان من طين ثم كانت التسوية. ومن ثمة، فالرؤية الكونية الإسلامية هي رؤية سلام وعدل.أنت تعرف أني نلت شهادة الدكتوراه من جامعة أمريكية وتعرف أن الأمريكان ليس لهم أي مودة أو محبة للمسلمين، وقد أثبثت في رسالتي للدكتوراه أنالإسلام يرسي أسس علاقاته الدولية على قواعد السلام والعدل، بينما الغرب بشقيه الليبرالي والماركسي، يبني رؤيته للعلاقات الدولية على الصراع. ولذلك ما هو مطلوب منا اليوم، في هذا الموضوع، أن نستعيد رؤيتنا وأن نصلح ثقاتنا، وأن نقدم نماذج فكرية وسلوكية ونعرضها بأسلوب معاصر. نحن اليوم نتوفر على وسائل الاتصال، ونتوفر على الآلات والأشياء كما قال مالك بن نبي، لكن ما صلاحية هذه الأشياء وما جدواها إن كانت مكدسة لا توجد رؤية تخرج الإنسان وتجعله قادرا على استثمار إمكاناته والوسائل المتاحة أمامه لعرض قيمه ونماذجه القائمة على العدل والسلام على العالم. ولذلك نعود ونؤكد دائما على احتياجنا إلى الرؤية القرآنية. إذا استطعنا أن نوضح رؤيتنا ونحسن عرضها والدفاع عنها، فمن المؤكد أن الرؤية التي تناشد العدل والسلام هي التي ستنتصر على الرؤية القائمة على الصراع، لكن ذلك يتوقف كما قلت على فاعليتنا وقدرتنا على عرض رؤيتنا.