تتقرر مكانه أي أمة بين الأمم على المستوى العالمي؛ بمقدار ما تقدمه من عطاء للآخرين. وهذا لعطاء هو رسالتها المتميزة التي تضع كافة إمكانياتها في خدمتها. وهذا ما يسميه أرلوند توينبي بالأناقة الحضارية. هذا العطاء هو الضامن لبقاء الأمم واستمرارها، لأن التوقف عن العطاء مؤذن بالمشروع في الأخذ السلبي(الاستهلاك) المؤدي إلى الفناء البطيء عبر أجيال. يبدأ هذا الاستهلاك بأخذ الأشياء المادية(المنتجات الصناعية والعسكرية)، ثم بأخذ العادات المادية(اللباس والأثاث والطعام...)، ثم المظاهر الثقافية (اللغات ونظم والإدارة والعلاقات الاجتماعية والديبلوماسية والفنون)، وأخيرا القيم (الاجتماعية والأخلاقية) فالعقائد، مما يؤذن بالانهيار والذوبان. رسالة الأمة حاجة نفسية اجتماعية حيوية، تحفظ الوحدة في مواجهة التفتت والتصارع على المصالح والعصبيات، إذ ترتقي بتوحيد الأفراد على هدف أسمى تستهلك طاقاتهم ونشاطهم، فتختفي الفتن والانقسامات. إعادة تأصيل مفهوم الإيمان ليشمل المظهر الاجتماعي للعبادة، بدل حصره في المفهوم الديني بمعناه الضيق. لتتمركز تطبيقاته في قلب الاجتماع البشري على الأرض، بدل نفيه في غيبيات خارج خلق الله؛ بعيدا عن رحلة الإنسان عبر الحياة والمصير. فلن يكون الدين الصحيح إلا في خدمة الإنسان. أما حين ينقلب الوضع بخدمة الإنسان للدين، فتلك بداية الوثنية والاستصنام وبناء المعابد وتقديم القرابين. إنه لتخليص البشرية من نظريات صراع الصدام وإحلال ثقافة الحوار والتعارف والتعاون والاعتصام بحبل الإنسانية الرفيع لا يسع إلا الاعتقاد الراسخ بأن الأمة الإسلامية؛ يوم أن تستعيد دورها الرائد، هي القادرة وحدها على مواجهة المشاريع الكارثية والتخطيطات القيامية، التي تستند على الرؤى الظلامية حقا، لأمثال صاحب نظرية صدام الحضارات، وأيضا لأجل رفع الإصر والأغلال عن تيه البشرية الراقي. وإلى جانب ما سطره عقلاء النخبة الإسلامية اليوم أتقدم بما أعتبره خطوة حيوية وسابقة على كل الخطوات، من أجل بناء ثقافة التوافق والتعاون لتحل محل ثقافة الصراع والإقصاء، بعيدا عن صنمية الهياكل والأسماء، وعصبية الانتماءات السياسية. وهو ما أختزله في عبارة المصالحة العاجلة والشاملة والخالصة عبر ثلاث مستويات: أ على المستوى الرسمي الصرف: مطلوب على هذا المستوى مصالحة عاجلة وشاملة، خالصة بين كل الأنظمة الإسلامية،... لحل الإشكالات الحدودية والسياسية والاقتصادية فيما بينها، خصوصا الجيران... ينبغي تصفية الأجواء ورد الأسرى وضبط الحدود بالخرائط، وتحديد جدول واضح للتعويضات والديون. ينبغي التخلي عن الصراع الإيديولوجي، وإقرار كل نظام بشرعية النظام الآخر مهما اختلفت طبيعتهما أو مشروعيتهما... بغض النظر عن اعتقاد كل نظام آخر. ولتكن قدوتهم في ذلك أوربا التي تمضي بخطى حثيثة نحو وحدة شاملة في زمن لن تعيش فيه إلا التكتلات العملاقة. هذه خطوة ضرورية عاجلة وممكنة تهيئ لخطوة أخرى ممكنة أيضا، هي تفعيل منظمة المؤتمر الإسلامي... لعمليات رفع مستوى التبادل الاقتصادي والتعاون الصناعي... وتحرير بعض القيود على حركة البضائع والأشخاص والمؤسسات بين بلدان العالم الإسلامي... وتحديد سقف أدنى للتنازل الإسلامي في قضية فلسطين وغيرها من القضايا، تجاه مؤامرة السلام ومهزلة التطبيع،... آنذاك تقل حاجة هذه الأنظمة إلى الغرب، ويقل خضوعهم لأمريكا. ومن ثم ترتفع عنهم الحاجة إلى مهادنة الصهاينة. ب على المستوى الرسمي الشعبي: مطلوب على هذا المستوى أيضا: مصالحة عاجلة شاملة خالصة بين الأنظمة من جهة، وبين القوى السياسية والإسلامية من أحزاب وحركات إسلامية. ينبغي إنشاء هذه المصالحة على أرضية مواجهة العدو الصهيوني. ويستلزم ذلك تخلي بعض الأحزاب السياسية كلية عن عقلية التآمر والانقلاب عن طريق الاستعانة بالقوة الأجنبية. وتخلي بعض الحركات الإسلامية عن العنف باسم الجهاد، مما يفيد الأعداء فقط. قدوتهم في ذلك الرسول صلى الله عليه وسلم في مرحلة الدعوة حيث التحم بالصبر والمسالمة. وهذه هدنة ضرورية وملحة لإبطال المخطط الإسرائيلي لإشعال الفتنة داخل كل قطر إسلامي، حتى تزداد الأنظمة خضوعا لابتزازات الصهاينة وهيمنتهم، وتضعف قدرة المقاومة الشعبية ضد التطبيع، والتي تقودها أساسا الحركات الإسلامية. يستتبع ذلك مرحلة طبيعية هي تقليل الحس الأمني من جهة الأنظمة وما يستلزمه ذلك من تخفيف الاعتماد على الأسلحة والقمع، ومن توسيع هامش الديمقراطية ولو قليلا لاستيعاب التناقضات السياسية والاجتماعية بدل قمعها، فتنفجر. ويتم بذلك أيضا نوع من التفاهم بين الشعوب والأنظمة حاصلة إطلاق يد القوة الشعبية لمواجهة التطبيع الشعبي ومنعه، مقابل غض الطرف نسبيا عن التطبيع الرسمي باعتباره أمرا واقعا آنيا، في أفق انفراج تثمره هذه المصالحة، يقوي قدرة هذه الأنظمة على الصمود في وجه الضغوط الخارجية. وستكون أول ثمار هذا الاختيار، هي تحقيق قدر أدنى من الاستقرار، يجلب الاستثمارات الخارجية، ويشجع الاستثمارات الداخلية، ويفجر طاقة الإبداع والعطاء لدى الشعوب، لأن الشعور بالكرامة والاستقرار هو الطريق الوحيد للازدهار، ويوقف نزيف الإهدار المالي والفكري والنفسي الذي يسببه الاقتتال الداخلي في شبه حرب أهلية بين الحكام والقوى الشعبية. ونقترح للشروع في تحقيق ذلك، تشكيل لجن للمساعي الحميدة تسعى لتخفيف حدة الاحتكاك ما بين الأنظمة والنخب، من أجل تقليل الصدام بين الحكام والمعارضين. والنتيجة: وقف مآسي انتهاك حقوق الإنسان في العالم الإسلامي، وسل فتيلة الفتة. ج على المستوى الشعبي الصرف: مطلوب على هذا المستوى أيضا مصالحة عاجلة شاملة خالصة بين القوى السياسية أحزابا وجماعات ضاغطة، وبين الحركات الإسلامية والعشائر والقبائل والأقليات الدينية والعرقية والمذهبية، والجمعيات الأهلية والمدنية. وذلك بتأسيس أخلاق الحوار والشورى، والاحتكام إلى صناديق الاقتراع، وتوقيع ميثاق شرف يكون كلمة سواء بين الفرقاء، يتعاهدون فيه على نبذ العنف المادي واللفظي والفكري فيما بينهم، ويقرون بالتعددية وحق الجميع في الوجود الثقافي والاجتماعي، واحترام الدساتير والقوانين المنظمة لحقوق وواجبات المواطنة. يهيئ هذا لمرحلة لاحقة مستعجلة أيضاً، هي تكوين جبهة موحدة في كل قطر عربي على الأقل، تجمع كل القوى الشعبية على أرضية قاسم مشترك يمثل الحد الأدنى المتفق علية من برنامج الإنقاذ، ويتضمن: -1 محو الأمية. -2 الدفاع عن الثوابت للحفاظ على الهوية ضد العولمة. -3 بناء استراتيجية مقاومة التطبيع الشعبي، ودعم أشكال الممانعة للتطبيع الرسمي. 4 السعي لبناء مؤسسة سياسية شعبية لمعالجة مشكلة الأكراد بالمشرق، وبدء معالجة مثيلتها: القضية الأمازيغية بالمغرب. 5 السهر على جعل الديمقراطية تربية تثمر سلوكا لا شعارا لمجرد الاستهلاك. وفي تصوري المتواضع فإن هذا برنامج أدنى يخفف من لجوئنا جميعا إلى القوى الأجنبية: يخفف من لجوء الحكام إلى القوى الأجنبية احتماءً بها من الشعوب، إذ يوصلهم هذا اللجوء إلى الابتزاز. ويخفف من لجوء المحكومين إلى هذه القوى الأجنبية تظلماً لها من الحكام، إذ يوصلهم هذا اللجوء إلى التوظيف.