الكا. جي. بي. و السي.آي.إي.: علامتان تمثلان لوحدهما فظاظة وشراسة الحرب الباردة. إنهما تعبران عن الجزء الخفي من المواجهة الأمريكية-السوفييتية؛ حرب في الظل تم خوضها في جميع القارات بين قوتين عظيمتين ظلتا دائما في سعي نحو الهيمنة على العالم. قضية رجال هذا الصراع الإيديولوجي هو أولا وقبل كل شيء قضية رجال.من فيلبي إلى بورجيس؛ مرورا ب هومبلوتون وغيوم؛ كلهم جميعا سجلوا بصماتهم على صفحة التاريخ السري الكبير للمواجهة بين الولاياتالمتحدةالأمريكية والاتحاد السوفييتي. الكا. جي. بي. في حد ذاته هو ديناصور مؤسسي حقيقي. لقد تأسس في السنة الموالية لموت ستالين؛ وهو يترجم الإرادة السوفييتية والرغبة الملحة في تدارك التأخر التكنولوجي عن القوة الأمريكية بأي ثمن. وعلى هذا الأساس فإن قدراته المادية والبشرية كانت هائلة؛ بل فلكية. ما يقارب الخمسمائة ألف شخص، إضافة إلى مائتي ألف من حراس الحدود يشكلون فقط عموده الفقري وبنيته الأساس. ومع أخذ مسافة في التاريخ للتأمل والتحليل؛ يبدو أنها فقط فعالية جاسوسيته هي التي مكنت من تأخير السقوط النهائي للاتحاد السوفييتي. عندما تغطي انتصارات الكا. جي. بي. على هزائم الاتحاد السوفييتي الكا. جي. بي. الذي تأسس بعد نظيره الأمريكي بسبع سنوات تولد عن إدماج لمنظمتين قديمتين للاتحاد السوفييتي. والتعايش السلمي الذي تم الالتزام به مع الولاياتالمتحدةالأمريكية غداة حرب كوريا لم يُلغِ على الإطلاق التنافس والسعي وراء المعلومات حتى في قلب أراضي العدو. وعلى الرغم من النصر الكبير الذي مثله إطلاق المركبة الفضائية سبوتنيك؛ فإن الكريملين كان على وعي تام بأن بلاده تعيش تخلفا تكنولوجيا وصناعيا ضخما مقارنة مع خصمها. والدليل على ذلك كان خلال السفر الوحيد ل خروتشوف إلى الولاياتالمتحدةالأمريكية. في سبتمبر .1959 كان الرجل الأول في الاتحاد السوفييتي هو أول المندهشين من مستوى العيش الهائل جدا للعمال الأمريكيين! في غياب القدرة على التوفر على اقتصاد عالي الجودة في أدائه؛ استفاد النظام السوفييتي من حظوة وهيبة دوليتين وصادف العديد من المتعاطفين داخل دول العالم الثالث. وإذا كان دعمه لعبد الناصر إبان أزمة قناة السويس قد قام في هذا المجال بدور لا يستهان به؛ فإن مصالحه الدعائية وجواسيسه المتعددين المبثوثين في كل مكان بالعالم قد ساهما بما لا يدع مجالا للشك في رسم هذه الصورة؛ وعلى الرغم من تراجع خروتشوف في ذل مرتين خلال أزمتي برلين وكوبا فإن هيبة الاتحاد السوفييتي ظلت كما كانت، ولم تمس.وفي نفس الوقت تميز الكا. جي. بي. في التلاعب بالأخبار والمعلومات وتزويرها. ولعل قضية الصاروخ غاب تعد أوضح مثال في هذا المجال. بحيث نجح العملاء السوفييت في اغتنام الضجة التي أحدثتها عملية سبوتنيك كأول مركبة تدور حول الأرض في الرابع من أكتوبر 1957؛ لإيهام الأمريكيين وإقناعهم بأن الاتحاد السوفييتي يتوفر على مخزون ضخم من الأسلحة النووية يضاهي على الأقل ما تتوفر عليه الولاياتالمتحدةالأمريكية. وبعد ذلك جاءت رحلة يوري غاغارين حول الأرض يوم الثاني عشر من أبريل1961؛ لتؤكد هذه المزاعم. هذا الإنجاز التكنولوجي كان هائلا ويتناقض مع الوجه العالمثالثي الذي كان للاتحاد السوفييتي في مجال المواد الاستهلاكية. ولكن يجب الاعتراف هناك بفاعلية جواسيسه. رجال يتم توظيفهم في أغلب الأحيان حتى داخل أراضي العدو نفسه. ويكفي أن نذكر أنه فيما بين سنتي 1944 و1994؛ فإن ما لا يقل عن 139 جاسوس سوفييتي تمت إدانتهم من طرف القضاء الأمريكي؛ أكثر من نصفهم تمكنوا من اختراق الجيش الأمريكي وتسلق درجاته، وتسعة منعم اشتغلوا حتى داخل ال سي. آي. إي. نفسها... الثأر المتأخر للسي. آي. إي. جهاز ال سي. آي. إي.؛ وبعد أن فقد الثقة ومُست سمعته غداة أزمة خليج الخنازير سنة 1961 وبعد أن ناله الخزي في الانقلاب على الديمقراطية في الشيلي بدعمه العملي للجنرال بينوشي في إطاحته الدموية بالرئيس المنتخب سالفادور آليندي سنة 1973؛ وجد هذا الجهاز صورته تتلطخ مرة أخرى في فضيحة إيران- كونترا- غيت سنة .1986 وبكلام واضح فقد اتُّهِم بدعمه لمسلحي الكونترا النيكاراغويين المعروفين بكونهم شيوعيين في بيع السلاح لإيران؛ الدولة التي أقسمت في رأي الأمريكيين على تدمير الولاياتالمتحدةالأمريكية؛ وهي الفضيحة التي اندلعت خلال رئاسة رونالد ريغان؛ رجل برنامج حرب النجوم؛ هذه القضية ظلت في الخفاء بسبب إرهاصات آخر حشرجات إمبراطورية الشر قبل أن تسلم الروح. فمنذ فجر سنوات الثمانينات من القرن المنصرم كان الجيش الأحمر قد غاص حتى ركبه في مستنقع أفغانستان متورطا بالكامل في الحرب التي سوف تنهي وجوده. لم يتردد العديدون في وصف تلك الحرب بفيتنام سوفييتية. الأمريكيون استغلوا هذه الخطوة الروسية الغير محسوبة العواقب بذكاء في إعادة الاعتبار لصورتهم في العالم الإسلامي (بعد تراجعها بسبب عدائهم للثورة الإيرانية). كان المجاهدون الأفغان قد تمكنوا من إفشال التدخل السوفييتي وفرض نظام موالٍ لموسكو في بلادهم. وتمكنوا من هزم أقوى جيش في العالم؛ ولم يعد يستطيع إلا قصف مواقعهم بالطائرات. وتزويد الأمريكيين للمقاومة الأفغانية بالصواريخ أرض- جو من نوع ريداي، وكذلك الصواريخ المضادة للطائرات من نوع ستينغر مكن من حسم نصر النهائي للمجاهدين الأفغان على السوفييت. وبالنظر إلى الأحداث بعد هدوئها وبعد زمن من حدوثها يتبين أن انسحاب الروس منهزمين من أفغانستان حمل في داخله بذور تفتت الاتحاد السوفييتي، وتبعا لذلك حلِّ الجهاز الشهير ال كا. جي. بي.. في أكتوبر ,,.1991 ومهما يكن؛ فإن الصراع حتى الموت الذي شنته على بعضهما وكالتا الاستخبار والتجسس المضاد لأقوى قوتين في القرن العشرين يرمز إلى سلطة ديكتاتوريتين: ديكتاتوريةُ شيوعيَّةٍ يعرف الجميع مخلفاتها على المستوى الإنساني (مجازر الغولاغات، إبادات ستالين، تصدير نظام قاتل خ بدعم سياسي؛ خصوصا إلى جنوب شرق آسيا...)، وديكتاتوريةُ الدولار المفرط في القوة لا تقاس إلا قليلا خسائره في الأرواح البشرية؛ ولا تبدو هذه الخسائر ربما إلا إذا نظرنا عن قرب إلى مستوى فقر الدول المدعومة و/أو الداعمة للولايات المتحدةالأمريكية. ولنا فقط أن نتذكر الأزمة المالية وكذلك أزمة انهيار العملة اللتان مستا في السنوات الأخيرة الأرجنتين ودفعتا دولة بأكملها - مع أنها معروف عنها أنها دولة غنية- إلى فقر وعوز متصاعدين. لوك ماري