لغاية اللحظة لم يصدر موقف مباشر عن الرئيس الأميركي المنتخب باراك أوباما حول ما يجري في غزة، باستثناء تصريحات عبر عنها مستشاره ديفيد أكسيلرود في برنامج قناة سي.بي.أس واجه الأمة يوم 28 ديسمبر الماضي، حيث بدا فيها أكثر توازنا من الرئيس الحالي جورج بوش متجنبا استعمال المقولات الحاكمة للموقف الأميركي الراهن، والتي تركز على تحميل حماس المسؤولية وتصر على اعتبار ما يقوم به الكيان الصهيوني دفاعا، بل إن اللجنة الأميركية-الإسرائيلية للعلاقات العامة المعروفة اختصارا باسم إيباك لم تجد سوى تصريح قديم لأوباما صدر عنه في 23 يوليو الماضي إبان اشتداد الحملة الانتخابية يدافع فيه عن القيام بأي شيء لمنع صواريخ حماس من استهداف المدن الإسرائيلية، ليتلو ذلك حديث إعلامي عن وجود استعداد عند أوباما للحوار مع حماس . أي تفسير يمكن تقديمه لهذا التطور؟ وهل يعكس إرهاصات تحول تعزز من القناعة الإيجابية التي تشكلت حول الرئيس المنتخب وتتجاوز ما تردد من انتقادات عند تعيينه لشخصية متعاطفة بشدة مع إسرائيل هي رام إيمانويل كرئيس لموظفيه؟ يصعب تبخيس مثل هذا التطور واعتباره مجرد حدث عادي، خاصة عند متابعة الحملة الإعلامية لدوائر دعم إسرائيل في أميركا والتي تنتقد بشدة سكوت الرئيس المنتخب أوباما، وتتحدث عن تحركات أعضاء الكونغرس من الديمقراطيين لملء الفراغ، كما جاء في مقالة وكالة التلغراف اليهودية ليوم 6 يناير الجاري، وذلك للحيلولة دون استغلال الجمهوريين لهذا الصمت وجعله قضية في السياسة الأميركية، واللجوء إلى تبريره بكون البلد يقودها رئيس واحد، وأن الأصل هو انتظار موعد تنصيب الرئيس المنتخب في 20 يناير الحالي، وهو ما تجلى في تقديم كل من زعيمي الأغلبية الديموقراطية رايد بمجلس الشيوخ وبلوسي بمجلس النواب لمشروعي توصيتين حازتا أغلبية كاسحة بالمجلسين حتى أن عدد المعارضين صراحة لم يتعد 5 في مقابل 093 صوتوا لصالح قرار يتيح الدعم الكامل للكيان الصهيوني بمجلس النواب وذلك يوم 9 يناير الماضي. لكن في المقابل يصعب النظر إليه كتطور استراتيجي لاسيما أن الحركة التي انخرطت فيها الدوائر الداعمة لإسرائيل في الكونغرس الأميركي بمجلسيه ذهبت بعيدا في هذا الدعم، حيث بلغ عدد مناصري الحرب ما يفوق 100 من أعضاء الكونغرس بحسب المعطيات الموثقة بتصريحات مفصلة والتي نشرتها إيباك، ومن ذلك التحرك الذي انطلق هذا الأسبوع لاستصدار قرار من الكونغرس حول الموضوع، وهو ما كشفته نتائج التصويت المشار إليها آنفا، إلا أن أبرز المؤشرات التي تساعد على فهم عمق الموقف الأميركي، وأكدته سابقا جريدة الجيروزاليم بوست في عددها ليوم 29 ديسمبر من أن الصواريخ المستعملة في قصف غزة والمتسمة بقدرات كبيرة في التدمير العميق تم تسلمها من الولاياتالمتحدة بداية شهر ديسمبر الماضي، أي قبل أسابيع قبل بدء العدوان، وأنها كانت موضوع صفقة وافق عليها الكونغرس في سبتمبر الماضي شملت 1000 صاروخ بقيمة 77 مليون دولار، وهو معطى شكل مرتكزا لمجموعة دورية واشنطن ريبورت لقيادة حملة اتصالات بأعضاء الكونغرس من أجل تبيان الانتهاك الإسرائيلي للقانون الأميركي الذي يحظر استعمال الأسلحة في عمليات هجومية ويربطها فقط بالاستعمال في حالات الدفاع عن النفس، وليس الهجوم لاجتياح غزة كما يجري حاليا. ويضاف إلى ذلك الموقف الأميركي في الأممالمتحدة والذي اشتغل في توفير حصانة أممية للعدوان واستكمال تحقيق أهدافه على المستوى الدبلوماسي الدولي، وهو الموقف الذي أدى إلى رفض صدور قرارات واضحة بإدانة إسرائيل. المثير في كل ذلك أن بعض القراءات الإعلامية سارعت إلى القول إن إقدام إسرائيل على شن العدوان في هذا التوقيت وقبل تسلم أوباما للرئاسة يعكس خوفا من ذهاب الدعم الأميركي لمثل هذا العدوان، وتوجسا من حصول تراجع في حال تحول الإدارة الحالية، وهي قراءة تضعف من دور الرهان الانتخابي للقيادة الصهيونية الحالية وسعيها لاستغلال العدوان في الانتخابات القادمة، كما تتغافل عن كون قرار الحرب قرارا اتخذ منذ مدة طويلة كشفتها المؤشرات الخاصة بكيفية تدبير العدوان والاستفادة الكبيرة من تقرير لجنة فينوغراد التي شكلت لفحص أسباب الهزيمة الإسرائيلية في حرب لبنان في ,2006 فضلا عن سياسة التسلح التي شهدتها السنة الماضية والتي ارتبطت بالتحضير للعدوان. الواقع أن المبالغة في قراءة صمت أوباما تعكس نظرة تبسيطية لبنية القرار في الولاياتالمتحدة الأميركية، لكن التهوين منه يعكس هو الآخر نظرة سطحية لآليات التحول في السياسة الأميركية، وهي آليات فرضت على أي تحول أن يأخذ منطق كرة الثلج التي تبدأ صغيرة لتنتهي كبيرة، وهو التحول الذي انطلق مع موقف الأكاديمية الأميركية بصدور دراسة اللوبي الإسرائيلي في أميركا في عام 2006 عن الأستاذين الجامعيين جون ميرشيمر وستيفن والت، كما يعكسها تعدد مؤسسات اللوبي المضادة والتي أخذت تنشط في دوائر القرار مثل مجموعة أميركيون من أجل السلام الآن و جي ستريت و بريت تزديك شالوم و يتسليم كمجموعات نشطة في مواجهة تأثير اللوبي المؤيد لإسرائيل. بكلمة، إن آثار العدوان الأخير على غزة لم تدفع فقط في توقع تغييرات عميقة تتمخض في المنطقة، بل وأصبح أحد عناصر الدفع في دينامية التغيير في الساحة الأميركية، وإن كان ذلك يتم ببطء شديد.