يجمع العديد من الباحثين و المحللين، على أن الدبلوماسية الشعبية المعاصرة، تعود نشأتها إلى أجواء الحرب الباردة التي أعقبت الحرب العالمية الثانية، حيث بادرت أمريكا إلى إنشاء وكالة إعلامية خاصة، يراد منها التأثير على الحواس و المشاعر، كسبا للعقول و استمالة للنفوس، سواء في دائرة الحلفاء (أوروبا الغربية) ، أو في محيط الأعداء (أوروبا الشرقية و الإتحاد السوفياتي السابق)، و قد لعبت كل من إذاعة صوت أمريكا و إذاعة راديو أوروبا الحرة، دورا طلائعيا في هذه المعركة ، و للإشارة فقط فالرئيس السابق لفرنسا، فاليري جيسكار ديستان و رئيسة الوزراء السابقة في بريطانيا مارغريت تاتشر، كانا من النخب الشابة التي استفادت من برامج تأهيلية تنظمها الوكالة المذكورة، و مند ستينيات القرن الماضي، ترسم المفهوم في الأدبيات السياسية، وانتشر في العديد من الدول، ومقصده الأساس، هو التواصل مباشرة مع الشعوب و المجتمعات، عن طريق وسائط إعلامية جذابة، و اعتماد على المنظمات الغير الحكومية و الرساميل الاستثمارية . أما بخصوص العلاقة مع قضية وحدتنا الوطنية، فأحسب - كما فهمت من الأرضية- أن هذه الندوة تروم تشريح واقع الدبلوماسية الموازية، التي يحمل المجتمع المدني جزءا من انشغالاتها و تفاعلاتها، و استجلاء المفاهيم المؤطرة لها، ثم استكشاف مساحات الغموض و مكامن الإلتباس، مما يساعد على فهم الإحتياجات و الإنتظارات، وتبيان الممكن قياسا إلى الإمكانيات، ثم بلورة و ترسيخ الإقناع بالصائب من الخيارات، تمهيدا لتفاعل حقيقي في الرؤى و التصورات بين الدولة و المجتمع وفق معالم واضحة لشراكة ناجحة. من هذا المنطلق، سأبدأ ببسط جملة من الملاحظات حول الواقع الدبلوماسي المغربي، ثم أعرج على ما يمكن اعتباره محددات أساسية في التدافع الدبلوماسي، لأخلص في النهاية إلى مقترحات تفيد في صياغة توصيات الندوة. 1 - تأملات في المشهد الدبلوماسي: أ - على المستوى الرسمي، يمكن إجمال أهم الملاحظات في النقاط الست التالية: أولا: اعتبار القرار السياسي في الشأن الخارجي مجالا خاصا بالمؤسسة الملكية، و هذا التوهم ينبغي التحرر منه لأن الملك في مشروعه التجديدي، ما فتأ يؤكد على المنهجية التشاركية، القاضية في حدودها الدنيا، بإعطاء مقترحات بناءة و إبداء ملاحظات و انتقادات بخصوص السياسات المتبعة، و قد لاحظنا كيف تم تدبير مشروع المقترح المغربي الخاص بالحكم الذاتي سواء في مرحلة هندسة معماره، أو ما يجري الآن بخصوص التنزيل الأولي له ضمن رؤية الجهوية الموسعة، و على قاعدة استشارة الفاعلين ذوي الصلة بالموضوع. ثانيا: إبقاء وزارة الخارجية و التعاون ضمن وزارات السيادة، رغم أن الملك الراحل الحسن الثاني رحمه الله، في عرضه للكتلة مطلع تسعينيات القرن الماضي، كان مستعدا للإبقاء فقط على وزارة الداخلية في هذا المجال. ثالثا: افتقاد إستراتيجية واضحة تؤطر العمل الدبلوماسي برمته، و هو ما ينتج عنه ضمور في روح المبادرة و قصور في نوع و حجم العمل الذي تقوم به البعثات الدبلوماسية، سواء باتجاه المواطنين المغاربة بالمهجر، أو صوب قوى و نخب المجتمعات المتواجدة بها. رابعا: طغيان ملف الصحراء و الأمن القومي على غيره من القضايا، علما بأن الدبلوماسية الإقتصادية الموجهة لخدمة التنمية في المنطقة مثلا، قد تشكل رافعة للدفع بالملف إلى مستوى أرحب من الإنفراج . خامسا: بروز توجه جديد لدى وزارة الخارجية يقضي باقتراح أسماء لفعاليات مدنية و سياسية خارج هيئة أطرها لتولي منصب سفير، وهي بادرة محمودة حبذا لو يتم تعميمها على مستوى باقي أطر البعثات الدبلوماسية، وصقلها باعتماد معايير شفافة، يكون من أهمها تحلي المرشح بالنفس النضالي و الملكة التواصلية. سادسا: احتكار الدولة لورقة الدبلوماسية الدينية القائمة أساسا على البعد الصوفي، و التي يتم توظيفها على المستوى الإفريقي و لدى بعض النخب في أوروبا و أمريكا الشمالية. ب - على المستوى الشعبي، هنا أيضا نسجل ست ملاحظات أساسية: أولا: غياب ثقافة الدبلوماسية الموازية بأصولها و قواعدها، وتخلف الإعلام العمومي - كما هو الحال في مجالات أخرى للأسف - عن القيام بدوره في التوعية و التثقيف، و في حدود علمي المتواضع، لم يجُد علينا هذا الإعلام يوما ما، بندوة أو حوار أو تحقيق عن أهمية الدبلوماسية الشعبية في الدفاع عن قضيتنا الوطنية . ثانيا: الغموض الكبير الذي يلف جل الفاعلين في هذا الحقل، فبالكاد نعرف أسماء بعض الجمعيات و أسماء رؤساءها، في حين نجهل كل شيء عن قوانينها الأساسية و التنظيمية، وعن هياكلها و أعضاءها، و عن برامجها و تقاريرها، وعن نجاحاتها و إخفاقاتها، وأخيرا وليس آخرا، مصادر تمويلها. ثالثا: في نفس السياق، يبدو تحرك البعض من هذه الجمعيات متماهيا مع تحرك الدولة، مما يعزز فرضية وصاية الأجهزة الرسمية عليها ، ويفقدها تبعا لذلك، جزءا من مصداقيتها. رابعا: غياب إطار للتنسيق و التعاون بين المهتمين و الفاعلين في هذا المجال، سواء فيما بينهم، أو في علاقتهم بالدولة، وهو ما يضعف مردودية الأداء على محدوديته. خامسا: رغم أهمية الدبلوماسية الاقتصادية، خصوصا في زمن العولمة، فلازال الاهتمام بها محتشما، و لقد كان لافتا موضوع الدورة الخامسة للمائدة المستديرة حول تشجيع صورة المغرب الاقتصادية بالخارج ، المنعقدة نهاية نونبر الماضي، إذ كان عنوانها إعادة إحياء الدبلوماسية الاقتصادية، وهو ما يشي بأنها في لحظات احتضار، كما أن مداخلة تنم عن حضور هذا الهاجس. سادسا: المعاناة المستمرة لجمعيات ذات صلة بالموضوع، و مسؤولية الدولة في ذلك، رغم التأثير السلبي البالغ للمسألة على مسار الدبلوماسية الشعبية وأقصد تحديدا جمعية المغاربة ضحايا الطرد التعسفي من الجزائر و الجمعية الوطنية لأسر و شهداء و مفقودي و أسرى الصحراء المغربية و لكأني بلسان حالهم يقول: وظلم ذوي القربى أشد مضاضة. (مداخلة قدمت على هامش ندوة جمعية حوار الأجيال لأبناء وحفدة الشيخ ماء العينين حول موضوع الديبلوماسية الشعبية )