خلال لقاءات عقدت لدارسة حصيلة تفعيل مدونة الأسرة المغربية بعد مرور خمس سنوات على صدروها، اغتنمت بعض الفعاليات النسائية المناسبة لإثارة موضوع المطالبة بتسوية المرأة بالرجل في الإرث؛ إعمالا لمبدإ المساواة الذي أصبح قيمة عالمية أوكونية كما يقال، يتعين على المدونة أن تنسجم معها، فتلغي ما ورد فيها من أحكام الإرث القائمة على المفاضلة بين الرجل والمرأة. وحيث إننا نعتبر هذه المطالبة محاولة للعودة بالمغرب من جديد إلى حالة التوتر والاحتقان التي طوتها المدونة بصدورها. وحيث إن هذه المطالبة تواجه نصوصا قرآنية واضحة وجلية حسمت قضية الإرث، ولم تفوضها إلى أي إنسان كائنا من كان. وحيث إن قضية بهذا الحجم تتعلق بالجانب المالي الذي لا بد أن يثير ردود فعل غير محمودة، وحيث إن هذه المطالبة تأسست على جهل كبير بأحكام الإرث، وعلى توهم خاطئ لإمكانية العبور إلى إلغاء نصوص قطعية من القرآن، كما أنها قد انبنت على جهل كبير بالذهنية المجتمعية التي لا تعدم حلولا لإجهاض أحكام تراها معتدية على أحكام الشريعة الإسلامية. لذا فإني آثرت معالجة القضية على مستويين، مستوى حواري يعتمد طرح الأسئلة الضرورية، ويحفز الذهن على الإجابة عنها، ومستوى آخر هو مستوى التعريف والإبانة لأحكام شرعية أعتقد أنها ظلت غائبة عن أذهان المطالبات بتسوية الإرث حين نحسن الظن، ونتوقع احتياجهن إلى كشف جوانب شرعية من موضوع دقيق قد لا يعرف الكثير من الناس تفاصيله. فبخصوص المستوى الأول فإني أفرده لمناقشة قضية المساواة التي اعتبرت مرجعية عالمية صارمة يمكن أن تلغي التزام الإنسان المسلم بالمرجعية الإسلامية، وتعفيه من مقتضيات انتمائه للعقيدة التي تلزم بالانصياع والإذعان لحكم الله ورسوله. وأريد أن أوضح منذ الآن أن المساواة هي أصل راسخ في البناء التشريعي للإسلام، ولها فيه دلالة مؤصلة عبرت عنها كتب المقاصد وغيرها. ( ينظر باب المساواة من مقاصد الشريعة لمحمد الطاهر ابن عاشور ص 90 ، وكتاب المساواة في البعدين الوضعي والشرعي. مصطفى بن حمزة). ومن أجل الدخول في عمق النقاش الذي التزمته فإني أطرح أسئلة عديدة بخصوص ضرورة إعادة بناء أحكام الميراث في المدونة بما يحقق المساواة .وأول سؤال يتعين طرحه هو أن نسأل إن كانت النساء المطالبات بالمساواة في المدونة يرين أن اللامساواة متمثلة في إرث المرأة فقط؟ أم أنهن يدركن أن هذه اللامساواة مبثوثة وشاخصة في أحكام كثيرة من المدونة منها على سبيل المثال أن تختص المرأة بأخذ المهر، وأن تستفيد من النفقة وتنفرد بحق الحضانة قبل الرجل؟. وفي المدونة مواد أخرى لا تراعي المساواة حين تلزم الزوج بتكاليف لا تلزم بها الزوجة، فهو المطالب بدفع الصداق ( المادة 26) وبتحضير بيت الزوجية، ولا يحق له مطالبة الزوجة بأثاث أوغيره ( المادة 29 ) وهو الولي لأولاده بحكم الشرع ( المادة 36) وأولاده تبع له في الدين والنسب (المادة 145)، وهو الملزم بدفع مستحقات الطلاق وهي مؤخر الصداق. ونفقة العدة والمتعة وأجرة سكنى المطلقة خلال عدتها ( المادة 84)، وهو الملزم أيضا بأداء مستحقات الأطفال بعد الطلاق ( المادة 85)، كما أنه يؤدي أجرة الحضانة، وهي غير أجرة الرضاع والنفقة ( المادة 166)، ويدفع تكاليف سكنى المحضون ( المادة 168)، والأحكام من هذا النوع عديدة، وتشمل كثيرا من أبواب المدونة.إن المدونة سعت لأن تكون نصا متوازنا يحرص على استجماع مقومات العدل ومراعاة الفطرة في توزيع الحقوق وفي الالزام بالواجبات وفق ما قررته الشريعة الإسلامية. وإن من الغريب أن تكون المدونة طافحة بالكثير من الأحكام التي تنفرد بها النساء دون الرجال أو ينفرد بها الرجال دون النساء، ومع ذلك لا يقع التركيز إلا على قضية الإرث بالذات. وليس لهذا من تفسير إلا أن تكون الدعوة إلى المساواة في الإرث مؤسسة على الإغراء بالحصول على المال في حال الوصول إلى تغيير حكم الشرع في الإرث، ومن قبل هذا ركزت بعض الدعوات على المطالبة باقتسام الثروة المكتسبة حال الزواج؛ اعتمادا على ما يحققه التلويح بالمال من استقطاب وتجميع للمناصرين، وكأن في هذا إشعارا بأن المرأة لا تحرك بالمبادئ؛ بقدر ما تحرك بالوعد بتحقيق المنافع، وبملامسة الرغبة في الحصول على المال؛ من خلال علاقات الأسرة التي هي علاقات إنسانية وغير تجارية بالأساس. وقد كان الإيمان بمبدإ المساواة يفرض أن تطالب المرأة بحقها في دفع الصداق للزوج، وفي الإنفاق، وبنبذها للاختصاص بالحضانة مع وجود الزوج، وبدفع مستحقات الطلاق، وبكل ما هو تكاليف يتحملها الرجال بما في ذلك تعريضهم لعقوبة إهمال الأسرة في حال عدم الإنفاق، وهذا ما لم نسمع له ذكرا لأن رفع شعار المساواة يتم بطريقة براغماتية نفعية تومن بالشعار حين يكون في مصلحة المطالب به، وتسكت عنه إذا لم يحقق المنفعة والمكسب المالي. إن الدعوة إلى التسوية في الإرث تتضمن ولا شك إثارة للخصومات وتحريضا للمرأة على أخيها الذي ترى فيه أنه سلبها حقها بذكورته، وبتأييد الدين والقانون له على ظلمه. وأما السؤال الثاني الذي يتعين طرحه على من يلزم المجتمع المسلم بالمساواة، ما دامت المساواة قد أصبحت قيمة عالمية، فإن بالإمكان أن نطرح عليه السؤال هل يرى من حوله أن المساواة أصبحت فعلا قيمة عالمية ومبدأ محترما؟. وأين يمكن أن نرى تجليات تلك المساواة ؟ هل هي حاضرة في نظام عالمي يمنح خمس دول حق تقرير المصير العالمي، والاعتراض على اختيارات كل دول العالم بمجرد استعمال حق الاعتراض ( الفيتو)؟ وهل تتمثل هذه المساواة في حق بعض الدول في امتلاك القوة النووية، وفي صنع أسلحة الدمار الشامل وفي حق إسرائيل في أن تمتلك أكبر ترسانة نووية في الشرق بينما تدمر دول ويطاح بأنظمة بمجرد إشاعة أنها تمتلك أسلحة للدمار الشامل لم تمتلكها فعلا؟ وهل تتمثل هذه المساواة في منع الغرب من تنفيذ حكم القضاء في الممرضات البلغاريات اللواتي حقن 400 من الأطفال الليبيين بالفيروس المسبب للإيدز فمات منهم 20 طفلا؟. أم هل تتمثل المساواة في حماية الأوربيين لمن ضبطوا وهم يسرقون أكثر من 100 طفل من أطفال تشاد؟ وهل تتمثل هذه المساواة في تقدير التعويض الذي تدفعه ليبيا لأسر ضحايا لوكيربي بمبلغ 10 ملايين دولار لكل أسرة؟ بينما منحت أمريكا أسر من قتلتهم في حفلة عرس بأفغانستان مبلغ 240 دولار لكل قتيل؟ وهل تتمثل المساواة في جعل البلاد النامية مقابر للنفايات النووية؟ أم هل تتمثل تلك المساواة في اشتراط بعض الدول الأوربية أن تكون العمالة الوافدة إليها من جنس النساء فقط لأنهن أكثر تحملا للأعمال الفلاحية المرهقة، ولو كان ذلك على حساب ترك الأسرة وتشريد الأبناء وهو ما لا ترتضيه ثقافة المساواة للمرأة الأوربية طبعا؟. إني كثيرا ما أبحث عن مظاهر المساواة وتمثلاتها في الحياة الغربية قديما وحديثا، فلا أكاد أجد لها أثرا في أكثر المجالات حيوية وأهمية وهي بالتأكيد منعدمة في المؤسسة الدينية وفي مؤسسة الفاتيكان خصوصا، وهي المؤسسة التي لم تجلس فيها على كرسي البابوية امرأة إلا في حالة واحدة استطاعت امرأة أن تغالط الكرادلة وتتمظهر بالرجولة حتى جلست على كرسي البابوية تحت اسم جون الثامن لمدة تزيد عن العامين و أربعة أشهر، حتى إذا وضعت وليدتها من حمل غير شرعي رجمهما الكرادلة في الشارع العمومي كما يذكر ذلك بعض مؤرخي الكنيسة. ولا أجد المساواة كذلك في الحياة الفنية لدى الأوروبيين، وفي لوائح كبار الفنانين الذين طبعوا التاريخ الأوروبي من أمثال بيتهوبن، وموزارت، واليوناردو دافنشي. وفي حياة كبار المهندسين من مستوى كاودي. وفي حياة القادة والعسكريين من أمثال رومل، وروم، وكورينك، وليوطي، ولوكلير، وبيتان، وفوانو، وستالين، وفرانكو، ودوكول. ولا أجد المساواة ماثلة ضمن لائحة من حملوا درجة مارشارل. ودلالة هذا كله أن المساواة لا زالت شعارا وعلامة تجارية لتسويق منتج ثقافي معين، ومع ذلك تتجه المطالبة للمسلمين لتدعوهم إلى أن يحققوا المساواة عن طريق إلغاء مقتضيات نصوص قرآنية، على حين تتمسك المؤسسة الدينية والمدنية الغربية بكل تقاليدها الصارمة وبممارساتها اليومية التي قد تنأى عن روح المساواة. إن المطلوب من المجتمع أن يعترف للمرأة بحقها في المساواة في كل المجالات الحيوية التي لا زالت تشعر أنها لا تتساوى فيها مع مثيلاتها من النساء فضلا عن الرجال، فلا يحال بينها وبين أي موقع اجتماعي تتيحه لها كفاءتها العلمية وخبرتها المهنية، ولا تمنعها بعض المؤسسات الاقتصادية خصوصا من أن ترتدي الحجاب إن هي اختارته عن اقتناع، ولا تخلط بين التسويق التجاري واستثمار الأنوثة، كما أن المرأة في حاجة إلى أن تستفيد من المساواة مع الرجل في كل ما يتيح لها ممارسة وجودها الطبيعي الخاص، فلا يصير سلوكها واختيارها وتوجهها الديني برنامج عمل لمن يخالفها في المنطلقات والقناعات، ومادة للانتقاد الدائم لها على اختياراتها.