في العشر الأواخر من رمضان وفي ليلة السابع والعشرين منه يجتهد المسلمون في مشارق الأرض ومغاربها في التماس ليلة القدر طمعا منهم جميعا في ما عند الله من الأجر والفضل وتصديقا لوعد الله الذي جعل هذه الليلة خيرا من ألف شهر فقال تعالى: إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ (القدر :1-3 ) وإذ نقول دائما علينا أن ننتبه إلى هذا الإقبال المنقطع النظير والذي لا يزيد مع الأيام إلا رسوخا فإن ذلك لا يمنع من توجيه بعض الخواطر والأفكار لحسن استثمار هذا الإقبال وحسن توجيهه إن حرص المسلمين على الأجر في هذه الليلة هو الوضع السليم مع كل ما دل عليه الشرع من أبواب الأجر والفضل ، فإخباره سبحانه عباده بفضل هذه الليلة هو إرشاد منه سبحانه للخلق إلى استثمارها وعدم تضييعها لتكون مدخلا لنيل مغفرته ورضوانه. و إحياء المسلمين لليلة القدر هو توفيق أيضا إلهي لأنها ليلة لا تعني المسلمين ولكنها تعني العالمين وإلى يوم لقاء رب العاليمن فنزول القرآن من بين ما وقع فيها وإلا فهي كما قال تعالى:تتنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر قال ابن عباس وغيره: أنها سميت ليلة القدر، لأن الله تعالى يقدر فيها الآجال والأرزاق وحوادث العالم كلها ويدفع ذلك إلى الملائكة لتمتثله، ويشهد لهذا المعنى قوله تعالى: { فيها يفرق كل أمر حكيم }(الدخان: 4)، فتكون صلوات المسلمين سببا لجلب الرحمة للناس كافة. لكن مما يحسن التذكير به هنا إن الإحياء أوسع من القيام وإن كان القيام قد جاء منصوصا عليه في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: من قام ليلة القدر إيماناَ واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه وعليه فإحياء هذه الليلة ينبغي أن يمتد إلى أعمال أخرى فعن أنس قال: العمل في ليلة القدر، والصدقة، والصلاة، والزكاة أفضل من ألف شهر. فجعل رضي الله عنه سائر الأعمال التي يتسطيع العبد أداءها أفضل ثوابا من ألف شهر. والأهم من ذلك أن يحول المسلم العاقل طلبه للأجر إلى منهج في حياته كلها ، لنجعل من مضاعفة الأجر والثواب حافزا للطاعات خاصة وان ليلة القدر هي نفسها قد أخفاها الله تعالى عن عباده ليجدوا في العمل ولا يتكلوا على فضلها ويقصروا في غيرها، ففي مقابل حرص كثير من المسلين على القيام والعمرة في رمضان لا بأس من التذكير بأعمال أخرى عظيمة نتمنى ان يتزاحم عليها المسلمون تزاحمههم على أبواب المساجد لإحياء ليلة القدر أوتزاحمهم على تقبيل الحجر الأسود... ومن ذلك الإنفاق في سبيل الله وقد قال الله تعالى في فضله: مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ وَاللّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاءُ وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (البقرة : 261 ) ففي الآية إخبار بمضاعفة أجرالمال الذي ينفقه صاحبه سبعمائة ضعف ثم الله يضاعف لمن يشاء بمثل هذا و يزيد لمن يشاء. والمجالات التي تحتاج للمال كثيرة وعلى العاقل أن يتخير لنفقته أين يضعها. ومن ذلك السعي والانخراط في مزيد من الأعمال الاجتماعية تنفيسا عن المكروبين وتيسيرا على المعسرين والكل يعلم ما قد تدفع إليه الحاجة من الآفات وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا ، نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة ، ومن يسّر على معسر ، يسّر الله عليه في الدنيا والآخرة ، ومن ستر مؤمنا ستره الله في الدنيا والآخرة ، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه وفي بقية الحديث بيان فضل الاجتماع على كتاب الله ومدارسته ويدخل ضمنه كل تعلم للخير والعلم النافع . وفيه وفي غيره بيان العلم وفضله كما جمعه ابن عبد البر في كتابه ومع ذلك وقع تقصير كبير في طلب العلم . ومن ذلك بدل الوسع في الدعوة إلى الله وفي الحديث عن أبي هريرة أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال: من دعا إلى هدىً كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً الحديث ، وقد قال صلى الله عليه وسلم لعلي رضي الله تعالى عنه: ( فو الله لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خيرٌ لك من حمر النعم) ومع ذلك بقيت الدعوة من المجالات التي يدفعها الناس عن أنفسهم بكثير من الأعذارالواهية وقد يتهاون المنخرطون فيها رغم ما في السعي فيها من الأجر الكبير... الخلاصة إن تعامل المسلمين مع أبواب الفضل والأجر مما يحتاج للمراجعة ليخرج من ضيق الانتقاء إلى سعة التنزيل خاصة في المجالات التي يدفع المسلمون ثمن تهاونهم فيها كل يوم. فهل نحول إحياء ليلة القدر إلى إحياء لمعاني تلمس أبواب الأجر المتنوعة ولا نفوت على أنفسنا فرص استثمارها؟ لنجعل إحياء ليلة القدر منهج حياة..