كان واضحا مند البداية أن الإسلام أنشأ لدى المسلمين الأوئل ثقافة عقلانية تزاوج بين الإيمان بالغيب والتأكيد على احترام العقل ونظام الأسباب والمسببات ولا تستدعي الواحد منهما في المجال الذي هو من اختصاص الآخر خاصة في مجال الساحة الاجتماعية والتدافع من أجل الإصلاح . في هذا الشأن كان من أكبر ما نبه الإسلام عليه وسبق إليه خضوع الساحة الاجتماعية لقوانين تنتظم سيرها وحركتها العامة هي التي سماها بالسنن . وكان ذلك قبل أن يظهر في ساحة الفكر الإنساني التفكير العلمي الوضعي القائم على مناهج الاستقراء التجريبي والقائل باستطراد الظواهر الطبيعية ووجود علاقات سببية ثابتة هي التي يعبر عنها في فلسفات العلوم المعاصرة ب الحتمية الطبيعية ، ومن ثم قبل أن تظهر العلوم الإنسانية في صيغتها الوضعية الأولى العلوم الإنسانية وفي مقدمتها علم الاجتماع مع دروكايم وأوجست كوت . هذا التعليم القرآني ولد لدى المسلمين الأوائل ـ وهم الأشد إيمانا بالغيب ـ ميلا إلى المبادرة والإنجاز ورفضا للتواكل ، وفهما إيجابيا لمفهوم القدر مخالف للفهم الجبري الاستسلامي الذي تسرب لدى المسلمين على حين غرة . لكن الغريب في الأمر وبالرغم من التعليم القرآني المذكور، فإنه سرعان ما ستنتشر لدى المسلمين نزعات فكرية جبرية عطلت المبادرة الإنسانية بدعوى الإيمان بالغيب والإيمان بالقضاء والقدر خيره وشره ، ونزعات انسحابية تستدعي الكرامات والغيب ليحل محل الفعل في علم الشهادة ، وما فتئت هذه النزعات تضغط بكلكلها على جانب من فكر المسلمين وسلوكهم الثقافي وتخرجهم من دائرة الفعل إلى دائرة الانتظار . كما نشأت نزعات مغامرة لا تأخذ بعين الاعتبار سنن الله في الأنفس والآفاق خلال عمليات التغيير . لذلك يكون نقد مظاهر التفكير الخرافي والتمييز بينه وبين الإيمان بالغيب وتحديد معنى هذا الإيمان ودلالته المنهجية ،والنزعات الانتحارية المغامرة المستعجلة ، وإعادة بناء الثقافة السننية جزءا لا يتجزأ من عملية الإصلاح الثقافي. ضرورة معرفية في إعادة بناء منظومتنا الثقافية . والمقصود بالسنة الناموس أو القانون الذي يحكم الظواهر الاجتماعية خاصة . فمفهوم السنة جاء في القرآن والسنة النبوية أكثر التصاقا بمجال الظواهر التاريخية والاجتماعية . وذلك يعني أن الظواهر الاجتماعية والتاريخية ظواهر مطردة لا تحدث عشوائيا ، وأنه يمكن رصد العوامل المحددة لمسارها والتعرف عليه تماما كما يمكن تحديد العلاقات الثابتة والمطردة بين ظاهرتين طبيعيتين والتعبير عنها تعبيرا رياضيا . غير أن ما يميز السنة باعتبارها قانونا عاما يحكم سير الظواهر التاريخية عن الظاهر الطبيعية التي هي موضوع العلوم التجريبية في صورها المختلفة أن إدراك العلاقات السببية بين المقدمات والنتائج هو أكثر صعوبة وتعقيدا من زاويتين اثنتين : ـ أن القانون الطبيعي سواء في الفيزياء أو في غيره من العلوم التجريبية يحكم العلاقة بين ظاهرتين محددتين معزولتين ، وأن مجال التجريب لاختبار العلاقة السببية المذكورة هو المختبر العلمي بما يرتبط بذلك من إمكانية عزل الظاهرة ومن ملاحظة وتجريب قبل أن يخلص الباحث إلى القانون العلمي الذي يمكن اختباره في أي لحظة من اللحظات ، بينما مجال السنة هو مجال التاريخ والحضارة وحياة المجتمعات ، ومن ثم فإن التجريب بمعناه المختبري متعذر ، وأن مختبر السنن هو تاريخ المجتمعات وحاضرها ، وأن الاستقراء في هذه الحالة ليس هو الاستقراء التجريبي بل الاستقراء العقلي . ـ نحن في مجال الظاهرة الفيزيائية أو غيرها من العلوم التجريبية أمام ظواهر معزولة مبسطة في حين أننا في مجال السنن أمام ظواهر إنسانية معقدة متداخلة يدخل فيها جانب الوعي وتدافع الإرادات ، كما أننا في مجال يكون فيه الباحث أو ما يسمى بالذات العارفة جزءا لا يتجزأ من الواقع ا لمدروس ومن ثم يكون من الصعب عليه أن يتجرد نهائيا من التحيز المطلوب منهجيا من بعض المسبقات والعوائق المعرفية . ـ أن الزمان الذي يمكن فيه اختبار الظاهرة الطبيعية هو الزمان المختبرى الذي لا يتجاوز بضع لحظات في حين أن الزمان الذي يمكن فيه اختبار القانون الاجتماعي أو السنة هو زمان تاريخي قد يكون هو عمر أمة بكاملها ، ولذلك وردت الإشارة في أكثر من موضع في القرآن الكريم لهذا الزمن التاريخي أي زمن الأمم والحضارات وبذلك حين يكون القرآن الكريم قد نبه إلى أن الساحة الاجتماعية تخضع إلى سنن أو إلى قانوينة حضارية أو اجتماعية ، فإنه يكون بذلك قد سبق بمسافات ضوئية الفكر البشري ، ونقصد بذلك ليس ذلك الموقف البسيط الذي يقول بأسبقية القرآن في إقرار بعض الحقائق العلمية وهو ما يصطلح عليه بالإعجاز العلمي في القرآن الكريم . إن القرآن الكريم يكون قد وضع بذلك أسس علم أشرف بكثير من العلوم التجريبية الوضعية أو العلوم الإنسانية التي سارت على نهجها الوضعي وهو علم التاريخ وعلم الحضارة أي علم السنن التاريخية والمجتمعية الذي وصفه ابن خلدون ب علم العمران البشري ونعتبر أن ربط المنهج القرآني بقضية الإعجاز العلمي كما سبق للبعض الآخر ربطه بالإعجاز البياني ـ اختزال مخل بقوة هذا المنهج وأصالته ، وإن كنا لا نرى مانعا في الاسترشاد بالحقائق العلمية في فهم القرآن الكريم على اعتبار أن الدليل القطعي لا يمكن أن يعارض الدليل الشرعي القطعي بل يوافقه ويشهد له دوما