التأمنا كي نحتفل بالحدث التاريخي قبل ستين سنة في تل أبيب، عندما أعلن ديفيد بن غوريون استقلال دولة إسرائيل التي قامت على أساس الحق الطبيعي للشعب اليهودي في أن يكون سيدا على مصيره. السياق لم يكن فقط بقيام دولة جديدة بل وأيضا تجسيدا عملياً لوعد عتيق الزمن منح لإبراهيم وموسى وداود وطن للشعب المختار.. أرض إسرائيل. هذا خطاب صهيوني ليس خطابا امريكيا بمعنى أنه لم يصدر مثيل له من أي رئيس أمريكي منذ إنشاء الكيان الصهيوني وإعلان إقامة إسرائيل في 1948 صهيوني من ألفه إلى يائه في مضمونه وشكله، في تعبيراته ومصطلحاته، في رؤاه الأسطورية وكلماته التوراتية، وفي تبنيه الكامل لسياسة الكيان الصهيوني، والتجاهل الكامل لتاريخ وحقوق الشعب الفلسطيني، ومعاناته وعذاباته ونكبته وتشريده. إنه خطاب الرئيس الامريكي بوش أمام الكنيسيت الإسرائيلي يوم الخميس، الخامس عشر من مايو 2008 وبمناسبة الذكرى الستين لإقامة هذا الكيان. ومن أسف أنه لم تصدر كلمة رسمية من أي عاصمة عربية ضد المشاركة في هذه المناسبة، ومباركتها، وخطابها، بل إن مدنا عربية احتضنت بوش أي استقبلته بالأحضان، وكأنها تبارك ما نطق به!، علماً بأن هذا الخطاب في هذه المناسبة استفزاز للشعب الفلسطيني في يوم نكبته وأظنه شعباً شقيقاً كما لا نزال نردد، فوق أنه أي الخطاب استهتار بالشعب الفلسطيني ومعاناته المستمرة منذ النكبة، كما عبر بصدق الدكتور جمال زحالقة رئيس كتلة التجمع الوطني الديمقراطي الفلسطينية في الكنيسيت الإسرائيلي. ومصائب قوم عند آخرين فوائد، فقد ذهب سيلفان شالوم وزير خارجية إسرائيل السابق إلى أن الخطاب أثبت أن بوش صهيوني أكثر من وزراء في الحكومة الإسرائيلية، لذلك لقي الخطاب التصفيق 14 مرة، ووقف الحضور أربع مرات!. ويستطيع المرء أن يقرأ نص الخطاب كلمة كلمة وجملة جملة ورموزه الصهيونية، إلى جانب تبنيه بلسان فصيح لا عوج فيه لسياسة الكيان الصهيوني وجميع أهدافه العدوانية. إن هذا خطاب له ما بعده، أي أن خفاياه واتجاهاته ووعوده ستظهر إلى العلن في وقت غير بعيد. ولاكتشاف ذلك لا يكفي أن نقف عند نص هذا الخطاب بل يجب أن نربطه بما سبقه وبما صاحبه من أحداث تدور في فلك أهدافه، مما يؤكد أن الزيارة والمشاركة في هذه المناسبة الإسرائيلية كانت تعميقا من جانب بوش للضمانات التي قدمها في إبريل 2004 إلى رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق إرييل شارون، والتي أعطت إسرائيل ترخيصا بضم الكتل الاستيطانية التي أقيمت في الأرض الفلسطينية المحتلة منذ 1967 كما رفضت حق عودة اللاجئين الفلسطينيين إلى أرضهم التي طردوا منها في عام .1948 وفي اليوم التالي لإلقاء الخطاب، ذكرت صحيفة يديعوت أحرونوت أن بوش وأولمرت اتفقا على ربط إسرائيل بمنظومة الإنذار المبكر الامريكية التي تعمل بواسطة الأقمار الصناعية مما سيعطيها إنذاراً فورياً في حال إطلاق صواريخ باليستية من أي موقع في العالم عليها. وأضافت أن الجانب الامريكي استجاب للكثير من المطالب الإسرائيلية فيما يتعلق بتعزيز التحالف الاستراتيجي الأمني بين البلدين، في حين نقلت هآرتس في اليوم نفسه عن مصدر لم تذكره قوله إن الولاياتالمتحدة تنظر بالإيجاب في أعقاب زيارة بوش إلى طلب إسرائيل تطوير العلاقات الاستراتيجية بينهما. ولعل هذا ما دفع شيمون بيريز رئيس الكيان الصهيوني إلى وصف زيارة بوش بأنها حققت نجاحا باهرا، وكانت مؤثرة للغاية. والنجاح بالطبع لا يكون كلمات أو مجرد وعود بل مقياس الأعمال الملموسة والخطوات الفعلية على الأرض التي أبرزها بيريز نفسه بقوله إن أهم رسالة نقلها بوش في زيارته هي إطلاقه لإسرائيل العنان في التصدي للإرهاب، وأضاف أن أهمية خطاب الكنيسيت تتجلى عندما نصغي إليه من منظور عربي خاصة وأنه جاء قبيل زيارته للسعودية. ومن المؤكد أن أي عربي مخلص وأمين لا يستطيع أن يتجاهل مثل هذا الخطاب خاصة الكلمات التي وضعناها في المقدمة، أو خاتمة الخطاب وهي خطابه للإسرائيليين: في سياق الستين سنة الماضية خلقتم مجتمعاً حديثا في أرض الميعاد أنتم بنيتم ديمقراطية هائلة ستبقى إلى الأبد، وسيكون بوسعها دوما الاعتماد على الولاياتالمتحدة إلى جانبها. بارك الله إسرائيل. صحيح أن صاحب هذه الكلمات وصفه المؤرخون، وبشكل شبه إجماعي في استطلاع للرأي بأنه واحد من أسوأ خمسة رؤساء في التاريخ الأمريكي وأن شعبيته هي الأدنى منذ بدء هذا النوع من الاستطلاعات في أعقاب الحرب العالمية الثانية، لكن يبدو وأن هذا السوء وهذه الشعبية المتدينة لا علاقة لهما بالموقف من الكيان الصهيوني. ودليل ذلك أن هذه الزيارة وهذا الخطاب أمام الكنيست سبقتهما واقعة تعتبر تمهيدا أو تكملة لهما في آن واحد، وهي قانون أصدره الكونغرس بمجلسيه وبأغلبية كبيرة في 22 أبريل الماضي، بشأن الذكرى الستين لإنشاء إسرائيل وتقوية الروابط الأمريكية معها. ولا أظن أن الكونغرس نفسه سبق له أن أصدر مثل هذا القانون في الاحتفاء بمثل هذه المناسبة. أضف إلى هذا، أن رئيسة مجلس النواب الامريكي نانسي بيلوسي قررت تخصيص وقت من الجلسات العامة التي تعقد حتى شهر يونيو المقبل يلقي فيه الأعضاء كلماتهم تحية لمرور ستين سنة على إنشاء إسرائيل التي وصفتها بأنها معجزة القرن العشرين واعتبرت أمنها مصلحة قومية أمريكية. ولعل هذا كله يعيدنا إلى العبارة التي صدَر بها جيمس بتراس كتابه عن قوة إسرائيل في الولاياتالمتحدة وهي مقولة ليس لهذه الحالة أي اللوبي الإسرائيلي في واشنطن نظير في التاريخ السياسي الأمريكي.