تعيش كثير من النساء قصص معاناة تتتباين فصولها وأحداثها وتفاصيلها لكنها تلتقي كلها في الألم والأسى، بعضهن يستسلمن للأمر الواقع ويقضين الوقت في الحسرة والحزن على المصاب الجلل وأخريات تخلقن من معاناتهن تجربة تستحق الخلود وتجعلنها قصة نجاح وعطاء بلا حدود. شفيقة إسماعيل سيدة من مدينة تطوان وجدت نفسها محل امتحان عسير وتجربة تثقل كاهل الأمهات، كانت ككل النساء تنتظر مولودها بلهفة وشوق إلى احتضانه وملامسته، رسمت له مستقبلا جميلا في مخيلتها وخطت بمشاعر الحب أنشودة فرح رافقتها طيلة انتظارها لقدوم المولود الجديد. عندما أطلق صغيرها صرخته الأولى في هذه الحياة ارتسم البشر على ملامح الأسرة جميعها، إلا أن هذا البشر سرعان ما تحول إلى أسى وحزن عندما تعرض الطفل وهو في ساعاته الأولى لجلطة دماغية جعلت الأطباء يقررون أن حياته لن تستمر لأكثر من 24 ساعة، حملت الأسرة جرحها الصغير وألمها البليغ إلى خارج المغرب بحثا عن بصيص أمل يعيد الحياة إلى طفل لم تتفتح زهرته بعد. وجدت شفيقة نفسها وأسرتها أمام واقع جديد فالصغير لن يكون كبقية أقرانه، لن يستطيع اللعب معهم ولن يستطيع الحراك ولا الكلام، لن يمارس الرياضة ولن يرتاد المدرسة، لقد كان قدره أن يعيش في عالم خاص محاط بعناية خاصة ودائمة، تقول السيدة شفيقة تقبلنا حالة أحمد بهدوء وحمدنا الله وتغلبنا على كل الصعوبات وأصبحت الأربعة وعشرون ساعة التي حددها الأطباء كعمر افتراضي للطفل أحمد 24 سنة هي عمره الآن. فخر واعتزاز تتحدث شفيقة اسماعيل عن ابنها باعتزاز غريب وبنبرة تنم عن حب كبير ومكانة خاصة يحتلها أحمد داخل قلب أمه تقول عنه أعز ما عندي في هذه الدنيا هو أحمد، تغلبت على كل العراقيل ورافقت ابنها إلى أحسن المراكز الصحية المتخصصة في الإعاقة الذهنية لمتابعة حالته وقضت كل هذه السنوات إلى جواره تتعلم وتستفيد من المؤسسات الموجهة للآباء حيث يتلقون فيها برنامجا حول الأسلوب السليم للتعامل مع الأبناء ذوي الإعاقة الذهنية. كان أسوأ ما في التجربة نظرات الناس من الأقارب والأباعد، وكانت السكين التي انغرست في قلبها وتركت ندوبا غائرة هي عندما قال بعض أقاربها وعلى مسمع منها ياربي ياخدو وترتاحي كانت تعتبر هذا المنطق أناني وسلبي وقاتل، فالأبوان في نظرها إذا لم يعانيا ويتعبا ويتعاونا على تربية أبنائهم فلن يكون لهم الأجر ولن يكونا قد قاما بواجبهما الأبوي، وتضيف مثل هذا الكلام صعب والله هو الذي أعطى ووهب وينبغي أن نشكره في كل الأحوال. أحمد لم يأتي إلى الدنيا عبثا بل جاء لهدف ما إيمان كبير ذلك الذي ينفذ من كلمات السيدة شفيقة كلما تحدثت عن ابنها وإرادة قوية جعلتها لا تستسلم لرأي الأطباء بل تبذل الغالي والنفيس بمعية أسرتها كي توفر لابنها ظروف حياة مريحة. تجربتها جعلتها تنظر إلى الحياة بشكل مختلف وبمنطق مختلف، وإحساسها بمعاناة الأمهات اللواتي رزقن بأطفال ذوي إعاقات ذهنية جعلها تفكر في خطوات عملية تباشرها بنفسها وتتعاون عليها هي وزوجها وأبناؤها، هذا الإحساس وهذه التجربة الغنية جعلتها تفكر وأسرتها في تأسيس جمعية تهتم بأحوال المعاقين ذهنيا وتقدم لهم المساعدة التي يحتاجون إليها فكان ميلاد جمعية نور للمعاقين ذهنيا، تقول شفيقة بأنها تمكنت بفضل الله من أن تسافر بابنها إلى أفضل المراكز وبأن توفر له جميع الوسائل الضرورية من الأفرشة الخاصة بالإعاقة والكراسي المتحركة والممرضات اللواتي يعتنين به والأطباء المتابعين لحالته، فكل هذه الإمكانيات التي يحتاجها المعاق والتي لمستها من خلال تجربتها جعلتها تتساءل كيف يمكن لعائلة إمكانياتها المادية ضعيفة أن توفر كل هذه الحاجيات خاصة وأن مدينة تطوان لا تتوفر على مراكز خاصة بتطبيب هذه الحالات حيث تقدم لهم الرعاية اللائقة والضرورية. الإعاقة هي الفقر تؤكد شفيقة على أن الإعاقة الحقيقية هي الفقر والحاجة فكثير من الأسر التي ابتليت بطفل معاق تجد صعوبات كبيرة في العناية بهم في غياب المساعدة والدعم والتوجيه فعندما يكبر المعاق ذهنيا تزداد مشاكله الصحية وتتعقد ويحتاج إلى رعاية خاصة لا يمكن لأسرته المتواضعة أن توفرها له، والأسر المغربية الفقيرة خصوصا بحاجة إلى من يعطيها الأمل في المستقبل وإلى من ينتشلها من الوضع المؤلم الذي تعاني منه، فهؤلاء الأطفال عندما يكبرون يثقل حملهم ويصبحون عدوانيين وعصبيين نتيجة الإهمال الذي يشعرون به وعدم الاهتمام بهم وإحساسهم بأنهم غير مرغوب فيهم فيواجهون هذا الوضع بالعنف. تنتقد شفيقة اسماعيل نظرة المجتمع إلى المعاقين وتصفها بنظرة الاحتقار والاستصغار وكأن المعاقين هم من اختاروا هذا الوضع وترى أنه من الضروري توعية الناس خاصة وأن هذا الوضع قد يجد أي شخص نفسه فيه بدون إنذار مسبق، لذلك ينبغي أن ننظر بعين الرحمة إلى هؤلاء الأشخاص فهم بحسبها من أطهر وأشرف خلق لله، فهم لم يؤذوا أحدا ولم يتكلموا بسوء عن أحد تقول أم أحمد قضيت 24 سنة بجانب أحمد ورغم أن الأطباء قالوا لي بعد ولادته أنه لن يعيش لأكثر من 24 ساعة إلا أنه بفضل الله ما زال على قيد الحياة، ومنذ ذلك الوقت، عاهدت الله إذا عاش ابني فإنني سأهب هذا العمل لوجه الله خالصا ومن أجل الأشخاص المحتاجين ماديا ومعنويا حسب طاقتي وإمكانياتي. عائلة السيدة شفيقة تجاوبت بشكل إيجابي مع المشروع وكان كل أفرادها وما زالوا جزءا منه وتتمنى أن يلقى مشروعها المزيد من الدعم والمساعدة لأن ذوي الاحتياجات الخاصة بحاجة إلى تضافر جهود الجميع، وتستنكر قيام بعض الجمعيات باستغلال آلام المعاقين ومعاناة أسرهم في جمع المال وتحصيله وفي المقابل لا تقدم لمن تتحدث باسمهم شيئا.