حين دخلت بلجيكا على الخط، وتم التصريح بشكل رسمي بأن عبد القادر بلعيرج يشتغل لصالح بعض أجهزتها الأمنية، اشتبكت داخل هذا الملف عناصر كثيرة جعلته أكثر غموضا وتعقيدا. كان الرأي العام ينتظر بشغف ما ستقوله بلجيكا غداة الإعلان عن أخطر شبكة إرهابية على رأسها شخص اتهم بالقيام باغتيالات ونهب وسطو داخل التراب البلجيكي دون أن تصله تلك الأجهزة الأمنية. لكن الصحف البلجيكية، وربما تم ذلك بتسريب من تلك الأجهزة التي كان يشتغل بلعيرج لصالحها، كشفت الحقيقة التي أدخلت الملف في هذا الغموض المطبق. وزير الداخلية المغربي شكيب بن موسى ووزير الاتصال خالد الناصري دخلا في صمت طويل بعد الكشف عن هذا المعطى الجديد، ورسالة ملكية تأتي في هذا السياق تؤكد أن كلمة القضاء هي التي ستكون حاسمة في هذا الموضوع.ربما كان الإعلان عن اشتغال بلعيرج لصالح أجهزة أمنية بلجيكية بمثابة كرة الثلج التي أيقظت المصالح الاستخباراتية المغربية، وربما فهمت الحكومة المغربية أنها تسرعت كثيرا في هذا الملف في الوقت الذي كان يتطلب فيه الأمر مزيدا من التريث وتجميع المعلومات، بحيث إنها لم تضع في حسبانها أحد السيناريوهات الممكنة التي تقول بأن بلعيرج ليس رئيسا لـشبكة إرهابية، كما توصلت تحريات الأجهزة الأمنية المغربية، وإنما هو عميل للاستخبارات البلجيكية، وربما يعمل لصالح لجهات استخباراتية أخرى بقصد اختراق الجماعات المقربة من تنظيم القاعدة في المحور المتوسطي. هذا هو الاحتمال الذي لم تطرحه بقوة الأجهزة الاستخباراتية المغربية، وهو الذي من الممكن جدا أن يقلب الملف رأسا على عقب، إذ من المحتمل أن يكون بلعيرج ـ تبعا لما تم التصريح بكونه عميلا لأحد الأجهزة الأمنية البلجيكية ـ ضلل الأجهزة الأمنية المغربية، وأفاض في ذكر مجموعة من المعطيات والمعلومات بقصد إخفاء السر المهني (العمل لصالح جهات استخباراتية). وفي هذه الحالة، يطرح سؤال السلاح الذي تم العثور عليه من قبل أجهزة الأمن؟ الجواب عن هذا السؤال ليس صعبا لمن تبنى هذا الاحتمال، فمن الممكن أن يكون هذا السلاح هو الورقة التي استعملتها الأجهزة الأمنية البلجيكية لمساعدته على اختراق التنظيمات التابعة أو المقربة من تنظيم القاعدة. ولعل كون العديد من القطع التي تم العثور عليها من صنع إسرائيلي تدعم احتمال أن يكون هذا السلاح سلاحا للبوليس البلجيكي استقدم من إسرائيل وقدم لعبد القادر بلعيرج وتم تسهيل تهريبه إلى المغرب قصد تسليمه إلى الجماعة الإسلامية المسلحة أو الجماعة السلفية للدعوة والقتال حتى ينال ثقة هذه التنظيمات ويسهل اختراقها، ومن ثمة الوصول إلى معلومات مهمة تفيد الجانب الأمني الأوروبي في مواجهة العديد من التهديدات الإرهابية التي تعتزم القاعدة تنفيذها.إذا صحت هذه الرواية، وهذا الاحتمال، فإن الملف برمته ينبغي تكييفه سياسيا على نحو لا تحرج فيه المؤسسة الأمنية المغربية التي قامت، على كل حال، بمجهود كبير في تحصين المغرب من أي تهديد واقع أو متوقع حدوثه، وفي نفس الوقت لا تحسب الخرجات غير المدروسة لوزراء في الحكومة على الرصيد الديمقراطي للبلد.ولعل رفض وزير العدل التعليق على الموضوع، وكذا الرسالة الملكية بما فيها من حكمة في التعاطي مع هذا الموضوع، تعيد الأمل في إمكانية معالجته في سياقه الجديد بعد أن ظهرت معطيات جديدة لا شك غيرت مسار التحقيق أو على الأقل أثرت فيه بشكل كبير. وإذا صح هذا الاحتمال، فإن التدبير المتوقع لهذا الملف ينبغي ألا ينحصر في إطاره القضائي والقانوني فحسب بل ليصبح ملفا سياسيا يتداخل فيه المعطى القانوني بالاعتبارات السياسية الدولية، وهو ما سيتطلب معالجة دقيقة تستحضر كل الأبعاد، وعلى رأسها انخراط المغرب في مشروع محاربة الإرهاب، وكذا رصيده في المجال الديمقراطي والحقوقي. على أن الرهان لا ينبغي أن يتوجه بالأساس إلى صون المؤسسة الأمنية والحفاظ على هيبتها مع ما لهذا البعد من أهمية، وإنما ينبغي أن يتوجه أيضا إلى تحصين المكتسبات الديمقراطية، والتي تعني فيما تعني التعاطي بمهنية مع ملف القيادات السياسية التي تم اعتقالها على خلفية الاشتباه في تورطها في هذا الملف، وإعطاء القضاء الكلمة في الفصل في الموضوع. والمؤكد، إن ثبت مثل هذا الاحتمال الذي تحدثنا عن بعض تفاصيله، أن المغرب بما عرف عن دولته من حكمة في التعاطي مع هذه الملفات، قادر على الخروج من هذه الورطة بأقل الخسائر، وربما بإضافة نوعية لا تنضاف فقط إلى رصيده الحقوقي فقط، وإنما تدشن نقطة تحول في مسيرة القضاء المغربي في اتجاه استقلاله وحرمته.