صادف نشر مقال الأستاذ مصطفى الخلفي بجريدة التجديد حول موضوع الحركة الإسلامية والنخب أن كنت مع ثلة من الأصدقاء خ بعضهم قيادات جهوية لحركة إسلامية مغربية - نتناقش في الفكرة نفسها، أقصد محدودية قدرة الحركات الإسلامية في عمومها على استقطاب النخب الفكرية والثقافية والفنية والاقتصادية إلى صفوفها، حتى أصبحت مراكز القيادة الثقافية والإعلامية، ودوائر صناعة القرار والرأي بيد عقول متوجسة أو معادية للحركة الإسلامية بالرغم من جماهيريتها الكاسحة مقارنة بغيرها من التنظيمات يسارية كانت أم ليبرالية أم علمانية أم قومية. تطرق الأستاذ مصطفى الخلفي في مقاله العميق سالف الذكر إلى فكرة جوهرية تفيد بأن فعالية الحركات الاجتماعية ترتبط بمدى قدرتها على إنتاج النخب، وليس الانفتاح على ما هو قائم منها، وأن السبب الرئيسي وراء أزمة علاقة الحركة الإسلامية بالنخب لم ينجم عن انفتاح خاطئ أو سطحي بل لعدم فهم دور عامل الإنتاج في دفع حركة الانفتاح، مشددا على أن من الأسئلة المحددة لمستقبل هذه الحركات في العقود القادمة ومستوى فعاليتها في الإصلاح الاجتماعي والتغيير السياسي مرتبطة بمدى تجاوزها لشرنقة الانفتاح على النخب إلى التحول إلى بنية من بنيات إنتاجها وتطويرها . في نظري المستوى الثاني الذي يستلزمه هذا التحليل هو مقاربة السؤال التالي: لماذا لم تتحول الحركات الإسلامية إلى بنية من بنيات إنتاج النخب ؟ وكيف يمكنها تحقيق هذا التحول مستقبلا ؟ قصور الحركة الإسلامية في إنتاج النخب يعود أساسا في رأيي إلى معوقات ذات طبيعة بنيوية أجملها فيما يلي: أولا : يلعب نمط التفكير السائد داخل الحركة الإسلامية دور المعوق الأكبر في أي تحول من هذا النوع الذي تحدثنا عنه، لأنه هو الذي يصوغ شخصية الأعضاء، ويبلور سلوكهم في المجتمع وطريقة تفكيرهم، ومنهج تعاملهم مع القضايا و تحليلهم لها، ونمط التفكير السائد حاليا مازال مشدودا إلى فكر عصر الانحطاط الذي أقل ما يقال عنه أنه عصر مغاير تمام المغايرة لعصرنا، وظروفه مختلفة كليا عن ظروفنا .والنتيجة هي أن شحت حركة إنتاج الأفكار وشاع الجمود والتقليد وقل الرواد والعظماء وتم الاستغناء ب الحركة عن الفكر. ثانيا:ضمور الدينامية التجديدية في البنية الفكرية للحركة الإسلامية: حتى إنك لتجد حركة إسلامية معاصرة في شكل هيكلها التنظيمي (اختيار المسؤولين بواسطة الانتخاب ، التداول على مواقع المسئولية، وجود هياكل تنفيذية وتشريعية باختصاصات وصلاحيات واضحة ومحددة...) و في أساليب تحركها الميداني (عقد الندوات - إصدار الصحف والمجلات خ توظيف التكنولوجيا الحديثة في عمليات التواصل والتبليغ كالانترنت مثلا خ إصدار البيانات ... ) وبالرغم من ذلك تجد الحركة ذاتها مترددة في اقتحام مجالات تعتبر حيوية بالنسبة لمستقبل أية حركة اجتماعية جادة كمجال الفنون والآداب مثل المسرح والسينما والرسم والغناء والرقص و التصوير و القصة والرواية والفنون التشكيلية وغيرها مما أبدعه العقل المعاصر، علما أنه قد أصبح للفن في الحضارة العالمية الحديثة دور عظيم في الدعوة إلى المذاهب والقيم، وكادت الدعوة من خلال التعبير الفني الجميل أن تضارع الدعوة المباشرة بالأسلوب الخطابي في الكلام والكتابة، فالقصة السائرة والمسرحية المشهورة والقصيدة الرائجة قد تحمل الرسالة بوجه غير مباشر إلى وجدان المخاطب وينشرح لها صدره ولا تستنفره إلى المكابرة والمقاومة. وقد يتسنى في القصة والمسرحية أن يعرض على القارئ والمشاهد نموذج متكامل من الحياة الدينية بوجه قد لا ينقله اللفظ البياني المباشر إلا بإسهاب طويل وبصورة ناقصة ( كتاب الدين والفن للدكتور الترابي )، وبسبب من ضمور الدينامية التجديدية في بنيتها الفكرية فإن الحركة الإسلامية مازالت لم تحسم بعد على المستوى الفكري والإيديولوجي مسألة الدخول من عدمه إلى المجالات الآنفة الذكر، ومازال التردد هو سيد الموقف تجاهها، وهذا طبيعي لأن الحسم فيها وفي غيرها يحتاج إلى حقنها بجرعات قوية من دينامية الاجتهاد الجريء في بنيتها الفكرية. بدون ذلك لن تكون هناك نخبة من الرواد تستوعب التجربة الفنية والأدبية المعاصرة لتصوغ منها إبداعا إسلاميا تقدمه لمجتمعاتها وللإنسانية جمعاء. ثالثا :تنمية عقلية الاقتحام بدل عقلية الهروب: من أسف أن أبناء الحركة الإسلامية يتوجسون من كل جديد لمجرد أنه جديد، ويكون الموقف إزاءه هو الرفض لأنه الموقف السهل الذي يعفي صاحبه من أية معاناة فكرية أو عملية ، والأجدر هو أن يكون المسلم الملتزم سباقا إلى اقتحام عالم الجديد بكل جرأة وثقة، والى استشراف المستقبل والتحديات المحيطة به بكل بصيرة، و أن يكون شعاره دائما هو قوله تعالى ادخلوا عليهم الباب فإذا دخلتموه فإنكم غالبون . ويدخل في هذا السياق ما أقدمت عليها بعض الجمعيات الإسلامية في الولاياتالمتحدةالأمريكية وكندا من تكوين فرق شبابية للراب والهيب هوب تحمل مضامين إسلامية وإنسانية خالصة، لكن في قالب عصري يستهوي ملايين الشباب في مشرق الأرض ومغربها، وقد لقيت خ حسب ما حكى لي بعض المقيمين هناك خ تجاوبا جماهيريا قل نظيره . رابعا : تعزيز الحرية الفكرية الداخلية : النخب ما هي إلا طاقات مبدعة وجدت التربة الخصبة لتنمية مواهبها، ووجدت التنظيم الذي يتعهدها بالرعاية والاحتضان والتشجيع ، ولعل أحد الشروط الضرورية لنمو مثل هذه الطاقات هو الحرية الفكرية التي تتأسس على الوعي بقوة الأفكار.وقد قال أحد الكتاب مرة : لكي يكثر عدد المواطنين الكبار ( أي النخبة) في أمة ينبغي أن ينمو فيها جميعا الشعور بقيمة الرأي وجلال الكلمة ( أي الحرية الفكرية). أخلص في الأخير إلى أن إنتاج النخب داخل الحركة الإسلامية يستلزم تحقيق ثورة على مستوى التفكير السائد داخلها بإطلاق دينامية تجديدية شاملة وتنمية عقلية الاقتحام بدلا من عقلية الهروب وتعزيز الحرية الفكرية الداخلية.