لم تتحقق نبوءة الباحث الفرنسي كلود بالازولي بالوفاة البطيئة للحركة الوطنية، ولكن سنة الله في خلقه أبت إلا أن تختطف قادة الحركة الوطنية واحدا واحدا.. نهاية الأسبوع الماضي ودعنا قائدا كبيرا من قادة الحركة الوطنية، في ظرفية سياسية دقيقة تحتاج فيها البلاد إلى حكمة رجل من حجم الأستاذ امحمد بوستة. رحل عنا مولاي امحمد بوستة عن سن يناهز 94 سنة، وبوفاته فقد المغرب رجلا من طينة القادة السياسيين الكبار الذين تَرَكُوا بصماتهم في الكثير من المحطات المفصلية في تاريخ المغرب المعاصر.. اشتهر بموقفه الرافض لتولي منصب الوزير الأول في حكومة يتواجد بها إدريس البصري وزير الدولة القوي في الداخلية آنذاك، بعدما رفض العرض السياسي الذي اقترحه عليه الراحل الحسن الثاني سنة 1993، القاضي برئاسة حكومة التناوب من طرف حزب الاستقلال أحد أكبر الأحزاب في الكتلة الديموقراطية آنذاك.. كان المغرب يمر بظروف اقتصادية وسياسية صعبة، وكان الحسن الثاني يدرك أن الأحزاب الوطنية التي تتمتع بالمصداقية اللازمة هي المؤهلة لقيادة الحكومة في تلك الظروف دون التضحية بالرجل القوي في تلك المرحلة، لكن امحمد بوستة اعتبر بأن تواجد الراحل إدريس البصري في الحكومة سيبعث إشارات خاطئة إلى الرأي العام حول جدية التناوب وحول قدرة الحكومة على مباشرة الإصلاحات اللازمة مع حضور أحد رموز السلطوية في تلك المرحلة.. كان امحمد بوستة رجل دولة بامتياز تولى المسؤولية العمومية في العديد من القطاعات الهامة: في الخارجية والعدل والوظيفة العمومية، كما قاد حزب الاستقلال لأزيد من عقدين بعد وفاة الزعيم علال الفاسي.. لم يتردد سنة 2000 في ترؤس لجنة إصلاح مدونة الأحوال الشخصية بعد الانقسام المجتمعي الذي عرفته البلاد، ونجح بحكمته وذكائه في بناء توافق تاريخي انتهى إلى حسم واحد من الإصلاحات الكبرى في عهد محمد السادس، بعدما تعثرت اللجنة الأولى التي كان يرأسها إدريس الضحاك ولم تنجح في استكمال مهمتها. تعرفت عليه بشكل مباشر سنة 2002، عندما قرر «منتدى 21 للحوار والتنمية» الذي كنت أشغل عضوية مكتبه التنفيذي، والذي كان يرأسه أستاذنا محمد تاج الدين الحسيني، أن يستضيف فقيدنا ليفتتح ندوة كبيرة حول موضوع حساس يتعلق ب « الأممالمتحدة وقضية الصحراء»، دافع في كلمته بحماس عن ضرورة اعتماد نظام للحكم الذاتي في المناطق الجنوبية واعتبره نظاما متطابقا مع نظام الجهوية المعتمد في المغرب خصوصا إذا أدخلت عليه إصلاحات جديدة. خلال هذا اللقاء شاركت بمداخلة تحليلية حول «السلطة التشريعية والتنفيذية في ورقة اتفاق الإطار» التي وضعها المبعوث الأممي آنذاك جيمس بيكر، وكم كانت سعادتي كبيرة وأنا أسمع تعليق السي بوستة الذي كان يترأس الجلسة وهو يثني على مداخلتي.. بعدها ببضعة أسابيع تلقيت دعوة من مؤسسة علال الفاسي تدعوني للمشاركة في ندوة علمية حول آفاق النظام الجهوي في المغرب، عرفت فيما بعد أنها كانت بتوصية من المرحوم امحمد بوستة. وبالفعل كانت ندوة متميزة ترأسها الراحل امحمد بوستة بنشاط وحيوية تثير الدهشة بالنسبة لرجل في مثل سنه، وكانت أساريره تنفرج كلما سمع انتقادا للنظام الجهوي القائم آنذاك ودعوة صريحة لتطوير هذا النظام ليقترب من النماذج الناجحة في العالم، بل كان المرحوم يؤمن بالجهوية المتقدمة كمدخل أساسي من مداخل تطوير النظام الديموقراطي في المغرب، وهو ما استنتجته من خلال العديد من النقاشات الثنائية التي جمعتني بالفقيد. في سنة 2005 حصلت على جائزة علال الفاسي الفكرية، فكانت مناسبة توطدت فيها علاقتي بالمرحوم وأصبحت صديقا دائما للمؤسسة التي كانت ولازالت فضاءً للحفاظ على تراث المرحوم علال الفاسي وإثارة الكثير من النقاشات الرصينة حول قضايا الفكر والسياسة والاقتصاد والاجتماع. كنت أتصل به من حين لآخر لتدقيق بعض المعطيات التاريخية، خصوصا منها تلك التي ترتبط بحزب الاستقلال. في إحدى المرات اتصلت به، للتأكد من واقعة لم تكن معروفة لدى الكثيرين، وهي مدى صحة ذهابه للدفاع عن سيد قطب أمام القضاء المصري بعدما قرر جمال عبد الناصر إعدامه، وبالفعل أكد لي أنه ذهب رفقة المرحوم عبد المجيد بنجلون إلى القاهرة عن طريق بيروت، وفيها وصلهما خبر إعدام سيد قطب فرجعا إلى المغرب بتعليمات من علال الفاسي رحمه الله، الذي قرر طباعة كتاب «معالم في الطريق» في مطابع الرسالة في الرباط بعدما كان ممنوعا في القاهرة، وكتب رثاء طويلا في حق سيد قطب على صفحات جريدة «العلم». يوم 21 أكتوبر 2016، أي بعد عشرة أيام من الانتخابات الأخيرة ترأس المرحوم امحمد بوستة ندوة علمية في مقر مؤسسة علال الفاسي تحت عنوان «السلطة التنفيذية في المجال الدستوري والسياسي المغربي» كان لي شرف المساهمة فيها..أتذكر جيدا أن فقيدنا قال فيها بأن «ممارسة السلطة التنفيذية تتطلب الحكمة والشجاعة لتحقيق التوازن بين جميع السلطات، واستكمال المسار الديمقراطي الذي لن يأتي بالخطابات بل بتنزيل القرارات وتنفيذها.» كانت تلك آخر مرة أرى فيها الراحل بوستة، وقد بدا فيها متعبا بعض الشيء دون أن يفقد تركيزه ومتابعته ليوميات السياسة المغربية والعالمية. استمرت اتصالاتي الهاتفية به أو بنجله العزيز الأستاذ خليل بوستة، للسؤال عن أحواله الصحية وقد كنّا على أمل اللقاء به في أقرب فرصة رفقة بعض الأصدقاء الأساتذة إلى أن عاجله قضاء الله الذي لاراد له.