لقد تبين لنا أن الوسطية لا بد لها من توافر أمرين، وهما: الخيريَّة والبينيَّة، ولا مجال لتحقق هذين الشرطين إلا باجتناب الغلو أو التطرف أو الإفراط من جهة وباجتناب التفريط والتسيب، أي بالتزام الصراط المستقيم، فالصراط المستقيم يُمثِّل الخيريَّة ويُحقّق معناها، وهو وسط بين الغلو والجفاء، أو الإفراط والتَّفريط، وهذا يُحقّق وصف البينيَّة وشرطها الذي ذكرنا أنَّه من لوازم الوسطيَّة. ولذلك إتماما لمعنى الوسطية نتوقف عند بيان دلالة المصطلحات التالية: الغلوّ أو الإفراط. الجفاء أو التَّفريط. الصّراط المستقيم. أولا: الغلو والإفراط عرَّف أهل اللغة الغلوّ بأنه مجاوزة الحد، فقال ابن فارس: غلو: الغين واللام والحرف المعتل أصل صحيح يدلّ على ارتفاع ومجاوزة قدر، يُقال: غلا السّعر يغلو غلاء، وذلك ارتفاعه، وغلا الرَّجل في الأمر غلوًّا، إذا جاوز حدَّه، وغلا بسهمه غلوًّا إذا رمى به أقصى غايته وقال الجوهريُّ: وغلا في الأمر يغلو غلوًّا، أي جاوز فيه الحد وقال في لسان العرب: وغلا في الدين والأمر يغلو غلوّا: جاوز حدَّه، وفي التّنزيل: (لا تغلوا في دينِكم) وفي الحديث: إيّاكم والغلوّ في الدّين أي: التشدّد فيه ومجاوزة الحدّ، كالحديث الآخر: إن هذا الدّين متين فأوغل فيه برفق. - وغلا السهم نفسه: ارتفع في ذهابه وجاوز المدى، وكلّه من الارتفاع والتَّجاوز. ويقال للشيء إذا ارتفع: قد غلا، وغلا النَّبت: ارتفع وعظم . الغلو في القرآن الكريم وقد وردت في القرآن الكريم آيتان فيهما النهي عن الغلو بلفظه الصريح، قال تعالى في سورة النساء: (يا أهل الْكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الْحق). قال الطبرييقول: لا تجاوزوا الحق في دينكم فتفرطُوا فيه، وأصل الغلو في كل شيء مجاوزة حده الذي هو حدّه، يقال منه في الدين: قد غلا فهو يغلو غلوًّا . وقال ابن الجوزي في تفسير هذه الآية: والغلو: الإفراط ومجاوزة الحدّ، ومنه: غلا السعر، وقال الزجاج: الغلو: مجاوزة القدر في الظلم. وغلوّ النَّصارى في عيسى قول بعضهم: هو الله، وقول بعضهم: هو ابن الله، وقول بعضهم: هو ثالث ثلاثة. وعلى قول الحسن: غلو اليهود فيه قولهم: إنه لغير رشده، وقال بعض العلماء: لا تغلو في دينكم بالزيادة في التشدد فيه. أما الآية الثانية فجاءت في سورة المائدة، في قوله تعالى:(قل يا أهل الْكتاب لا تغلوا في دينكم غير الحق ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل) . قال الطبري: يقول: لا تُفْرِطوا في القول فيما تدينون به من أمر المسيح فتجاوزوا فيه الحقّ إلى الباطل، فتقولوا فيه: هو الله، أو هو ابنه، ولكن قولوا: هو عبد الله وكلمته ألقاها إلى مريم، وروح منه. قال ابن تيمية رحمه الله: والنَّصارى أكثر غلوًّا في الاعتقادات والأعمال من سائر الطوائف، وإياهم نهى الله عن الغلو في القرآن. ومنْ غُلوّ النّصارى ما ذكره الله في سورة الحديد: (ثم قفينا على آثَارهم برسلنا وقَفينا بعِيسى ابن مريم وآتيناه الإنجيل وجعلنا في قلوب الذين اتبعوه رأْفة ورحمة ورهبانيةً ابتدعوها ما كَتبناها عليهِم إلا ابتغاء رضوان الله فما رعوها حق رعايتها). قال ابن كثير في آية المائدة: (قل يا أهل الْكتاب لا تغلوا في دينكم غير الْحق)أي لا تجاوزوا الحد في اتباع الحق، ولا تطروا من أمرتم بتعظيمه فتبالغوا فيه حتى تخرجوه من حيز النبوة إلى مقام الإلهية، كما صنعتم في المسيح، وهو نبي من الأنبياء فجعلتموه إلها من دون الله.