من الواضح أن الحزب الحاكم في السودان قد وجد في اتفاق نايفاشا الأخير ما يمكن وصفه بالإنجاز الذي سيجنبه الغضب الأمريكي، فيما يتيح له البقاء في السلطة بعيداً عن الأنواء التي تعصف به من كل جانب. وقد بد ذلك واضحاً خلال المرحلة الماضية من خلال التنافس بين اعمدة الحزب على نسبة الإنجاز إلى كل واحد منهم، الأمر الذي شطب واحداً من أهمهم وهو الدكتور غازي صلاح الدين بعدما رأى رجل النظام القوي، علي عثمان طه أنه الأولى بنسبة الإنجاز إلى نفسه من أي أحد آخر، سيما وهو الذي حقق "الإنجاز" السابق ممثلاً في شطب الشيخ وصاحب المشروع، أي الدكتور حسن الترابي. الآن يعود القوم من نايفاشا مدججين بانتصار كبير تمثل في اتفاق قسمة السلطة والثروة وخلاصته: 55% لحكومة الإنقاذ أو للحزب الحاكم بتعبير أدق، فيما 45% لحركة التمرد. ولا يعرف بالطبع ما إذا كان الحزب الجاكم سيمنح شيئاً من حصته لشركائه الحاليين من بعض الجنوبيين ومعهم إسلاميون آخرون، إضافة إلى الجناح المنشق عن حزب الأمة بقيادة مبارك المهدي، أم سيطرد هؤلاء من جنة الإنقاذ كما طرد منها الشيخ المؤسس، فضلاً عن أحزاب الشمال التي كان بالإمكان استيعابها بأقل بكثير مما منح لجارانج، ولكن بثمن أقل فداحة يتمثل في استمرار وحدة البلاد واستمرار مشروع الإنقاذ الإسلامي، فضلاً عن فرصة حقيقية لبقاء الحزب الحاكم، الأمر الذي سيكون موضع شك إذا سارت الرياح وفق ما تنشتهي سفن جارانج الذي لم يعد يحلم بالجنوب فقط، وهو الذي سيغدو رهن يديه في غضون شهور، وإنما بالسودان كله، ولكن بهوية أخرى، إفريقية مسيحية لا سلطة فيها للإسلام ولا للمسلمين، فضلاً عن الأصوليين من أمثال علي عثمان طه وعمر البشير!! من الواضح أن العقدة الوحيدة التي حكمت عملية التفاوض من أولها لآخرها هي عقدة الحفاظ على السلطة والذات بعد أن خسر رجال الإنقاذ جميع الشركاء وباتوا مكشوفي الظهر أمام الضغوط الأمريكية ومعها قوة جارانج التي تستنزف النظام في حرب الجنوب، من دون أفق حقيقي للانتصار. كان بالإمكان تجاوز ذلك كله كما قلنا لو بادر النظام إلى تقديم تنازلات معقولة لشركاء الشمال الذين لم يكونوا ليحلموا بأكثر من نصف ما حصل عليه جارانج، مقابل الولاء الكامل للبلاد ووحدتها، وحتى للنظام نفسه بكل برنامجه الأصيل. خسر النظام شريكه الإسلامي ثم شركاء الشمال ثم بعضاً من رموزه أيضاً، فضلاً عن علاقات إشكالية مع الجارة الكبرى التي تمر بحالة تراجع في مواقفها الإقليمية على مختلف الجبهات، سيما الخاصرتين الفلسطينية والسودانية. وبذلك جاء الاستحقاق الذي وقع والذي يحتاج لكي يخرج السودان من فخه إلى معجزة ندعو الله أن تقع، أكان من الداخل، أم بتراجع كبير للسطوة الأمريكية في العراق، بما يتيح للسودان بمساعدة مصر بعد تماسك موقفها أن يتجنب التجزئة وربما ما هو أسوأ منها ممثلاً فيما أشرنا إليه، وهو حلم جارانج بالسيطرة الكاملة على البلاد وتغيير هويتها، ومن ثم جعلها منصة صهيونية لتركيع الشقيقة الكبرى. - بقلم ذ.ياسر الزعاترة