من عادة الإنسان الاحتفال ببداية كلامه لأنه يتضمن قصده المنشود إما إجمالا أو إشارة أو تنبيها من أجل إعداد السامع لهذا القصد. ومن عادة العرب الذين نزل فيهم القرآن الاهتمام بأوائل وأواخر كلامهم في الخطب والأشعار، وقد سموا فواتح القصائد بالمطالع لأنها كانت توحي بما يليها من مقاصد. وكتاب الله عز وجل على عادة العرب يهتم بالفواتح والخواتيم لأنه نزل فيهم وخاطبهم بأساليبهم وتحداهم فيها حتى أعجزهم. والفواتح والخواتيم في كتاب الله تتنوع، فأشهر فاتحة قوله تعالى: "اقرأ باسم ربك...." وهو فعل أمر، كما أنه أسلوب من أساليب العرب في فواتح كلمهم كقولهم: (قفا نبكي ..... وعوجا على الطلل .... وقربا مربط النعامة مني.....) وقد جاء فعل الأمر فاتحة في سورة العلق، ويسميها الطبري سورة اقرأ، بينما يسميها الرازي: سورة القلم، وهي تسمية تجعل هذه السورة تلتبس بسورة القلم المفتتحة بحرف "نون". وتميز كتاب الله كذلك بفواتح أولها حروف على غير عادة العرب وفي ذلك إعجاز لهم ومن سور القرآن التي جاء ذكر الوحي في فاتحتها: (البقرة، آل عمران، الأعراف، يونس، هود، يوسف، الرعد، ابراهيم، الحجر، الكهف، طه، النور، الفرقان، الشعراء، النمل، القصص، لقمان، السجدة، يس، ص، الزمر، غافر، فصلت، الشورى، الزخرف، الدخان، الجاثية، الأحقاف، ق، الطور، النجم، الرحمن، الجن، القدر). وأول ما نزل من الفواتح سورة القلم، ونزلت بعدها ثمان وعشرون سورة كلها مفتتحة بالحروف المقطعة، ومنها ست وعشرون مكية، وثلاث مدنية هي البقرة، وأل عمران، والرعد. ومجموع الحروف المكررة في فواتح هذه السور 14 حرفا وهو نصف حروف المعجم العربي الذي نزل به القرآن. وقد اختلف في تأويل هذه الحروف فقيل: - هي إشارات إلى صفات الله تعالى وأسمائه (والله أعلم). - هي علامات وضعها كتاب الوحي (وهذا أمر مستبعد في كتاب الله المصون) - هي من حساب الجمل وذلك لحساب عمر الأمة (وهذا من الإسرائليات). - هي حروف استأثر الله بعلمها (والله أعلم). - هي تنبيهات لما يكون بعدها، وأكثر ما يكون بعدها ذكر القرآن الكريم (وهذا ما نحن بصدده). - هي تنبيه على شرف الحروف وعظم قدرها وجلالها، إذ هي مباني كلام الله عز وجل (وهذا من الممكن). وما يهمنا ههنا أن بعض هذه الفواتح أو أكثرها جاء بعدها ذكر القرآن الكريم، فعدد السور التي جاء في فاتحتها ذكر كلام الله هي 34 سورة تمثل نسبة 30% تقريبا من سور القرآن وهي أصناف: + الصنف الأول يشار فيه إلى الوحي بالآيات: ومن معاني الآية العلامة أو جماعة الحروف أو العجائب، أو العبرة. * يونس (الر تلك آيات الكتاب الحكيم). * لقمان (الم تلك آيات الكتاب الحكيم). * يوسف (الر تلك آيات الكتاب المبين) * الشعراء (طسم تلك آيات الكتاب المبين) * القصص (طسم تلك آيات الكتاب المبين). * الحجر (الر تلك آيات الكتاب وقرآن مبين). * النمل (طس تلك آيات القرآن وكتاب مبين). وبعد الإشارة إلى الآيات يأتي إما ذكر الكتاب أو القرآن مع صفتي الحكمة والبيان. + الصنف الثاني: يشار فيه إلى الوحي بالكتاب، والكتاب اسم لما كتب مجموعا أو لما كتب فيه أو للصحيفة كما أنه اسم الوحي والفرض والحكم والقدر: * البقرة (الم ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين). * الأعراف (المص كتاب أنزل إليك). * ابراهيم (الر كتاب أنزلناه إليك). * هود (الر كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير). * السجدة (الم تنزيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين). * الزمر (تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم). * الكهف (الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا قيما). * الزخرف (حم والكتاب المبين). * الدخان (حم والكتاب المبين). * الجاثية (حم تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم) * الأحقاف (حم تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم). * الطور (والطور وكتاب مسطور). وفي هذه الفواتح بعد الإشارة للكتاب تنزيه له عن الريب، ووصفه بالهدى، وبالإحكام والتفصيل والاستقامة والبيان، وكذا الإشارة إلى نزوله ومنزله سبحانه مع وصفه بالحكمة والخبرة والعزة والربوبية، والمنزل عليه صلى الله عليه وسلم. + الصنف الثالث: يشار فيه إلى الوحي بالتنزيل والقرآن والفرقان، والتنزيل ما أنزل من السماء، والقرآن ما جمع، والفرقان ما فرق بين الحق والباطل: * فصلت (حم تنزيل من الرحمان الرحيم). * النور (سورة أنزلناها). * يس (يس والقرآن الحكيم). * ص (ص والقرآن ذي الذكر). * ق (ق والقرآن المجيد). * الرحمان (الرحمان علم القرآن). * الفرقان (تبارك الذي نزل الفرقان على عبده). وفي هذه الفواتح يشار إلى النزول بالفعل والمصدر، ويوصف القرآن بالحكمة والمجد والذكر، ويشار إلى المنزل سبحانه ويوصف بالرحمة، ويشار إلى المنزل عليه صلى الله عليه وسلم ويوصف بالعبودية. ويرد القسم في بعض هذه الفواتح، كما يبارك المنزل سبحانه قبل ذكر الفرقان. + الصنف الرابع: يشار فيه إلى الوحي بلفظ الوحي نفسه، والوحي هو طريقة ابلاغ الرسالة من الله عز وجل إلى رسله الكرام صلوات الله عليهم: * الشورى (حم عسق كذلك يوحي إليك وإلى الذين من قبلك الله العزيز الحكيم). * النجم (والنجم إذا هوى ما ظل صاحبكم وما غوى وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى). * الجن (قل أوحي إلي). وفي هذه الفواتح إشارة إلى الموحي سبحانه مع وصفه بالعزة والحكمة، وكذا الإشارة إلى الموحى إليه صلى الله عليه وسلم، وإلى الوحي. ومما يستفاد من هذه الفواتح: 1)- تعظيم الله عز وجل فهو: (الحي القيوم، والحكيم الخبير، ورب العالمين، والعزيز الحكيم، والعزيز العليم، والرحمن الرحيم). وقد يشار إلى تعظيمه بالحمد والتبريك: (الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب)، (تبارك الذي نزل الفرقان على عبده)، ويلاحظ أن بعد ذكر الحمد والتبريك تذكر عبودية النبي صلى الله عليه وسلم تشريفا له. 2)- تعظيم الرسول صلى الله عليه وسلم ووصفه بالعبودية لله، ونسبة السعادة له والتنزيه والعصمة، والرسالة والهداية والإنذار، والبشارة، وإخراج الناس من الظلمات إلى النور. 3)- تعظيم الوحي، فهو الذي لا ريب فيه، وهو هدى للمتقين وهدى للناس، وهو مصدق لما بين يديه، وهو الحكيم، والمبين، والمجيد، وهو الحق. ومن وظائف الوحي حسب هذه الفواتح: - الهدى : (هدى للناس) (هدى للمتقين) (لتخرج الناس من الظلمات إلى النور). - التذكير: (تذكرة لمن يخشى) (لعلكم تعقلون). - البشارة والإنذار: (بشيرا ونذيرا) (ويبشر المؤمنين) (لتنذر به) ( لينذر بأسا شديدا من لدنه). وكما اهتم كتاب الله عز وجل بموضوع الوحي في الفواتح اهتم به أيضا في الخواتيم. ومن السور التي ذكر الوحي في خواتيمها: هود – يوسف – الرعد – ابراهيم – الكهف – ص – الدخان – ق – النجم – الواقعة – القلم – الحاقة – المدثر – المرسلات – البروج – الطارق – الأعلى. وهي 17 سورة بنسبة 15% من سور القرآن الكريم وهي نصف نسبة الفواتح التي هي 30%. ومما تجدر الإشارة إليه أن بعض السور وردت فيها الإشارة إلى الوحي في الفواتح والخواتيم وهي: هود – يوسف – الرعد – ابراهيم – الكهف – ص – ق – النجم، ونسبتها 7% من سور القرآن الكريم، وهي نصف نسبة الخواتيم، وربع نسبة الفواتح وهذه النسب من عجائب القرآن الكريم. والخواتيم بدورها أصناف وهي: + الصنف الأول: ويشار فيه إلى الوحي بلفظ الوحي نفسه: * هود (واتبع ما يوحى إليك). + الصنف الثاني: ويشار فيه إلى الوحي بلفظ القرآن: * ق (فذكر بالقرآن من يخاف وعيد). * البروج (بل هو قرآن مجيد في لوح محفوظ). + الصنف الثالث: ويشار فيه إلى الوحي بلفظ الحديث والقول والكلام: * يونس (ما كان حديثا يفترى). * النجم (أفمن هذا الحديث تعجبون). * المرسلات (فبأي حديث بعده يؤمنون). * الطارق (إنه لقول فصل). * الكهف (لو كان البحر مدادا لكلمات ربي). + الصنف الرابع: يشار فيه إلى الوحي بلفظ الكتاب والصحف: * الرعد (ومن عنده علم الكتاب). * الأعلى (إن هذا لفي الصحف الأولى). + الصنف الخامس: ويشار فيه إلى الوحي بلفظ الحق : * الواقعة (إن هذا لهو حق اليقين). * الحاقة (وإنه لحق اليقين). + الصنف السادس : ويشار فيه إلى الوحي بلفظ الذكر: * القلم (وما هو إلا ذكر للعالمين). * المدثر (كلا إنها تذكرة). * الدخان (فإنما يسرناه بلسانك لعلهم يتذكرون). + الصنف السابع: ويشار فيه إلى الوحي بلفظ البلاغ: * ابراهيم (هذا بلاغ للناس). مما يستفاد من هذه الخواتيم : 1- تعظيم الله عز وجل ووصفه بالعلم (عنده علم الكتاب). 2- تعظيم الرسول صلى الله عليه وسلم فهو الموحى إليه وهو الذي يسر الوحي بلسانه. 3- تعظيم الوحي فهو مجيد في لوح محفوظ، وهو منزه عن الافتراء، وهو قول فصل، وهو بلاغ للناس، وهو حق اليقين، وهو ذكر للعالمين. وكما أن للفواتح وظائف فإن للخواتيم أيضا وظائف وهي: - البلاغ والتذكير: (هذا بلاغ للناس) (وما هو إلا ذكر للعالمين) (كلا إنها تذكرة) (لعلهم يتذكرون). - الإنذار والتخويف: (فذكر بالقرآن من يخاف وعيد) (أفمن هذا الحديث تعجبون وتضحكون ولا تبكون). وخلاصة القول أن وظائف الوحي حسب الخواتيم تؤكد وظائفه في الفواتح، ومن هنا يستنتج أن السور التي بدأت بذكر القرآن وانتهت بذكره إنما تعتمد منهجية الإشارة البدئية اللافتة والانتهاء إليها كنتيجة مؤكدة، والله تعالى أعلم. بقلم: ذ. محمد شركي