منذ أوائل القرن العشرين المنصرم كان الإرهاب الوحيد في الوطن العربي ومحيطه الإسلامي هو إرهاب العصابات الصهيونية المدعومة من الدول الأوروبية الاستعمارية في فلسطين. وفقط عندما انتقلت وريثتها الأميركية من استخدام "القوة الناعمة" لبسط هيمنتها على المنطقة إلى الغزو العسكري المباشر أو بالوكالة من أجل "تغيير الأنظمة" الإقليمية التي لا تدور في الفلك الأميركي ظهر الإرهاب غير الصهيوني المتستر بعباءة إسلاموية وكانت الولاياتالمتحدة وتوابعها الأوروبيون وقاعدتهم المتقدمة في دولة الاحتلال الإسرائيلي هم المستفيد الأول والأخير منه. وفي هذه الرحم الغربية نمت الظاهرة المدمرة للإرهاب الصهيوني وغير الصهيوني على حد سواء كمولود غير شرعي لاستراتيجية "تغيير الأنظمة" بالقوة العسكرية من الخارج بموازاة القواعد العسكرية والأساطيل الحربية والدعم الاستخباري واللوجستي الغربي لحماية الأنظمة الموالية من طموح شعوبها المشروع إلى التغيير الوطني الديموقراطي من الداخل. بعد انهيار الاتحاد السوفياتي السابق ومعه نظام القطبين الدولي لم يبق عائق أمام الانفراد الأميركي بالقرار الأممي وبخاصة في الوطن العربي ومحيطه الإسلامي سوى الأنظمة الوطنية المنبثقة عن تصفية الاستعمار الغربي. وبالرغم من أن هذه الأنظمة كانت تحظى بدعم الاتحاد السوفياتي فإنها لم تكن جزءا من منظومته الاشتراكية الدولية ولا استمدت شرعيتها منه بل استمدتها من كفاح شعوبها من أجل التحرر والاستقلال في سياق حركة التحرر الوطني العالمية في قارات آسيا وإفريقيا وأميركا الجنوبية ولذلك فإنها كانت تملك اسبابا ذاتية للاستمرار والبقاء بعد الانهيار السوفياتي. ولهذا السبب كان لا بد للاستراتيجية الأميركية من "تغيير" أنظمة الحكم الوطنية بالغزو والاحتلال أو بالتدخل العسكري الخارجي المباشر أو بشن الحرب عليها بالوكالة وفي كل الأحوال لم تتورع هذه الاستراتيجية عن عقد زيجات مصالح غير شرعية متقاطعة مع الإرهاب، كما حدث ويحدث اليوم في العراق واليمن وليبيا ومصر وبخاصة في سورية. وكانت هذه الأنظمة الوطنية على وجه التحديد وما زالت هي المستهدفة باستراتيجية "تغيير الأنظمة" الأميركية التي لم تتورع عن استخدام الإرهاب أو توظيفه في خدمتها بغض النظر عن كل رطانتها الدعائية عن الديموقراطية وحقوق الإنسان التي استخدمتها مع ذلك في حربها النفسية ككاسحة ألغام إعلامية تستغل دور أجهزة المخابرات المتغولة وغياب الحريات في هذه الأنظمة الهرمة التي استمرأت حكم الفرد الذي اتجه نحو التوريث في أنظمة حكم من المفترض أنها جمهورية. وفي هذا السياق فقط يمكن فهم الأسباب التي جعلت ما سمي "الربيع العربي" حراكا اقتصر على هذه الأنظمة وحظي بدعم غربي مزدوج المعايير توقف عند حدود الدول العربية التي تدور في فلك الاستراتيجية الأميركية. والمفارقة أن الدول العربية التي تدور في الفلك الأميركي وتثير اليوم فزاعة التدخل والتمدد الإيراني الإقليمي لم تجد لا قبل الثورة في إيران ولا بعدها أي حرج في الاستقواء بالتدخل العسكري وغير العسكري الغربي ل"تغيير الأنظمة" العربية التي ليست على مثالها وللبقاء في الحكم على حد سواء. وتتنافس روسيا وفرنسا هذه الأيام على تقديم مشروع قرار لكل منهما إلى مجلس الأمن الدولي لمحاربة الإرهاب بموجب الفصل السابع من ميثاق الأممالمتحدة بينما سوف يتصدر "ملف مكافحة الإرهاب" جدول أعمال المجلس الأعلى لمجلس التعاون لدول الخليج العربية في دورته السادسة والثلاثين المقرر انعقادها في الرياض في التاسع من الشهر المقبل. غير أن أي صيغة أممية أو عربية لمحاربة الإرهاب ومكافحته سوف تقود فقط إلى استفحاله إذا لم تنص أولا على إنهاء استراتيجية "تغيير الأنظمة" الإقليمية بالقوة المسلحة والحصار والعقوبات من خارجها، وتحرّم ثانيا الاستقواء بالأجنبي وتدخله العسكري لتغيير الأنظمة، وإذا لم تُعد أي صيغة عربية لهذا الغرض، ثالثا، صياغة الأولويات العربية بحيث تكون مقاومة الاحتلال الإسرائيلي للأراضي العربية في فلسطين وسورية ولبنان وجزيرتي صنافير وتيران السعودتيين لها الأولوية على مقاومة ما تصفه الأدبيات الرسمية الخليجية ب"الخطر الإيراني" وما تصفه أدبيات حزب البعث العراقي ب"إسرائيل الشرقية" ويقصد هذا الحزب بها إيران، وإذا لم تنص رابعا على تجريم تمويل وتسليح وتسهيل ودعم تغيير الأنظمة بالإرهاب، ولم تنص خامسا على الالتزام بالقانون الدولي وميثاق الأممالمتحدة لاحترام سيادة الدول ووحدة أراضيها الإقليمية وخيارات شعوبها، فعدم الالتزام بذلك سلاح ذو حدين يمكنه أن يرتد على أصحابه في أية لحظة تاريخية مناسبة. والحالة السورية اليوم هي خير مثال على الصوت الغربي المرتفع الذي يدعي محاربة الإرهاب لكنه يوفر كل العوامل الموضوعية لاستفحاله. والموقف الأميركي من الحالة السورية هو خير مثال على النفاق الغربي في إدعاء محاربة الإرهاب. فالرئيس باراك أوباما عندما يجعل "إنهاء" ما وصفه تضليلا ب"الحرب الأهلية في سورية" رهنا بعدم "بقاء (الرئيس بشار) الأسد في السلطة"، كما قال يوم الخميس الماضي، وعندما يرفض نشر قوات برية أميركية على الأرض لمحاربة الإرهاب في سورية ويعد نشرها "خطأ" كما قال يوم الإثنين الماضي بالرغم من معرفته الأكيدة بأن اجتثاث الإرهاب لن يتحقق إلا بوجود جيوش تحاربه في الميدان، ويستمر في ذات الوقت في المحاولات الفاشلة التي جربتها بلاده طوال أقل من خمس سنوات مضت لاختلاق واصطناع معارضة "مسلحة" تصفها إدارته ب"المعتدلة" بانتظار تحقيق وهم تمكينها من هزيمة الإرهاب وإسقاط الأسد معا، ويبدأ وإدارته في ذرف دموع التماسيح على المدنيين السوريين المحتمل أن يسقطوا ضحايا جراء التدخل العسكري الجوي الروسي الناجع ولم يكن في قاموسه أي ذكر لهم بينما كانت أسلحة الجو في الدول الستين المنخرطة في تحالفه الغربي ضد "الدولة الإسلامية" – داعش تشن آلاف الغارات الجوية، وعندما لا تلتزم إدارته بعقود التسليح التي أبرمتها مع بغداد لمحاربة الإرهاب العابر للحدود العراقية إلى سورية بذريعة طائفية الحكم المنبثق أصلا عن الاحتلال الأميركي في العاصمة العراقية، إلخ.، تكون خلاصة الموقف الأميركي هي خلق حاضنة موضوعية لاستفحال الإرهاب تكتفي ب"احتوائه" لمدة قد تطول من ثلاث إلى عشرين سنة كما وعد أوباما والعديد من أركان إدارته، وهذا على الأرجح هو الهدف الحقيقي للولايات المتحدة الذي يفسر إدعاء محاربتها للإرهاب بينما تستمر عمليا في توظيفه لخدمة استراتيجيتها الإقليمية. إن تدمير الدولة الوطنية ومؤسساتها بحجة "تغيير النظام"، وإضعاف السلطة المركزية فيها، ومحاربة الهوية العربية الإسلامية المُوحِدة للمنطقة والتسويق ل"الفدراليات" أو الانفصال كبديل لها على أساس عرقي أو طاتفي أو مذهبي أو قبلي أو ثقافي أو جهوي هي عوامل ساهمت جميعها في خلق فراغ أمني ملأه الإرهاب. تعليقا على نتائج "الفراغ" الناجم عن احتلال العراق عام 2003 قال رئيس الأركان العامة البريطاني السابق اللورد دانات في مقابلة مع "سكاي نيوز" أوائل العام الجاري، وكأنما كان يعلق على الجريمة الإرهابية الأخيرة في باريس: "إننا نحصد الآن بعض ما زرعناه".