جينيا لوجيا صراع إقليمي الصحراء الشرقية أرض مغربية حاولت فرنسا مساومة المغرب بشأنها مقابل تخليه عن دعم جبهة التحرير الجزائرية. وكان رد محمد الخامس صارماً حيث اعتبر أن أي تفاوض حول الصحراء الشرقية مع فرنسا سيكون "طعنة في ظهر ثورة التحرير الجزائرية". كان جازماً أن المغرب سيسترجع أراضيه التي ألحقتها فرنسابالجزائر بعد استقلال هذه الأخيرة. فالحكومة الجزائرية المؤقتة برئاسة فرحات عباس كانت قد وعدت الملك الراحل بإرجاع أراضيه المغتصبة. ولكن الذي حدث أنه بمجرد خروج فرنسا من الجزائر انقلب العسكر على الحكومة المؤقتة، فأبعدت القيادات السياسية عن الحكم غداة الاستقلال مباشرة. ومعروف أن معظم الوجوه السياسية إما تمت تصفيتها جسدياً مثل ما حدث مع عبّان رمضان حتى قبل أن تستقل الجزائر، لمواقفه الواضحة التي يمكن اختزالها في مسألتين: الأولى تتمثل في أحقية الجناح السياسي على العسكري في قيادة الثورة، ثمفي تسيير الدولة بعد الاستقلال. والثانية أحقية القيادة الداخلية للثورة على القيادة التي توجد بالخارج ومنها بوخَرّوبة، المدعو بومدين، ومجموعة وجدة التي ستسيطر على الحكم بعد الثورة. ولم يكن عبّان الوحيد في قائمة التصفيات الجسدية فقد تمت تصفية القيادي محمد خيضر سنة 1967، وهو أحد أبرز قيادات الثورة الجزائرية، وكان ضمن الخمسة الذين قامت فرنسا باختطاف الطائرة التي كانت تقلهم من المغرب بعد لقاء مع محمد الخامس. ومن أغرب الطرائف أن نظام بومدين كان يتهم الحسن الثاني بالتآمر مع "العدو" الفرنسي وتسليمه هذه القيادات ! وهي رواية مضحكة ومبكية في آن للاعتبارين التاليين: الأول هو أنّ الحسين آيت أحمد، مؤسس جبهة القوى الاشتراكية، وكان أحد المُختَطفين الخمسة في الطائرة، فنّد هذه الرواية، وزار المغرب عدة مرات منها أربعينية عبد الرحيم بوعبيدبالدار البيضاء سنة 1992. والثاني، أن محمد الخامس عرض على فرنسا تسليم ولي عهده الحسن وشقيقه عبدالله لافتداء القياديين الخمسة. والذي يؤكد تهافت فرضية المؤامرة هو اغتيال بومدين للقيادي محمد خيضر في منفاه بإسبانيا بعد الاستقلال، علماً أنه كان أحد القيادات الخمسة المختطفة إلى جانب آيت أحمد، بن بلة، بوضياف،والأشرف. فنظام الجنرالات الذي "صادر استقلال الجزائر" بتعبير فرحات عباس في كتاب بنفس العنوان، لم يكن ليتسامح مع أصوات المعارضة حتى ولو كانت قيادات من قامة آيت أحمد الذي عاش في المنفى ولا يزال إلى اليوم. وحتى يوسف بن خدة رئيس الحكومة المؤقتة الثالثة، فُرضت عليه الإقامة الجبرية-السجن- من 1962 إلى 1989، بسبب معارضته لانقلاب العسكر على الحكومة المدنية وسيطرتهم على الدولة. وتحت مسمى الإقامة الجبرية أيضاً فُرض السجن على زعامات سياسية كثيرة. منها الشيخالبشير الإبراهيمي رحمه الله،أحد مؤسسي جمعية العلماء التي من رحِمِها خرجت الثورة الجزائرية، ولم تشفع له عند الجنرالات لا شيبته في الإسلام ولا في الثورة، ولا كونه من العلماء الأجلاّء، وظل في إقامته الجبرية حتى وفاته. واستمرتالاغتيالات تلاحق المعارضين في الخارج، ولم يسلم منها حتى المحامي علي مسيلي الذي اغتالته المخابرات الجزائرية سنة 1987في باريس، وهو أحد الوجوه الحقوقية التي عاشت في المنفى بعد استقلال الجزائر. ثُلَّة قليلة من القيادات استطاعت النفاذ بجلدها واستقرت في المنفى كما هو الشأن مع الرئيس الراحل محمد بوضياف الذي عاش في المغرب ثلاثة عقود ونيف قبل أن يُغتال في الجزائر من طرف ضابط في الجيش. أما زعيم جبهة القوى الاشتراكية الحسين آيت أحمد فلم يكن أسعد حظاً،إذعاش منفياً في سويسرا لخمسة عقود تخللتها سنتان يتيمتانفي بلده، بين 1989 و،1991 بعد الربيع الجزائري، وسُرعان ما عاد إلى منفاهبعد إغلاق قوس الديمقراطية. قائمة المنفيين أكبر من أن تحصى وهي لا تضم السياسيين وحدهم بل المثقفين وكل صاحب رأي حرّ، ومن هؤلاء شاعر الثورة الجزائرية مفدي زكريا الذي غادر الجزائر ليعيش في المغرب إلى حين وفاته. بل إن قيادات سياسية من النظام الحالي فضّلت الاستقرار في المغرب بعد خروجها من السلطة ومنها الوزير الأول عبد الحميد الإبراهيمي، أطال الله في عمره، وكان قد فجر العديد من الفضائح على قناة الجزيرة وعلى صفحات جريدة الشروق وقنوات أخرى، حول نظام العسكرتاريا الجزائري وضلوعه في الاغتيالات السياسية بالجملة. ولم يتسن لي التأكد من خبر مفاده أن الجنرال العربي بلخير، السفير السابق بالرباط، كان يشيد بيتاً (فيلاّ) في الرباط للاستقرار بها بعد نهاية سفارته بالمغرب، لولا أن المنية عاجلته قبل ذلك. أول انقلاب عرفته الجزائر هو الانقلاب على يوسف بن خده، وقاده في الكواليس الكولونيل المدعو هواري بومدين، ولكنه وضع في "المشهد" الأول رئيساً مدنياً له شرعية سياسية وهو بن بلة واحتفظ هو بوزارة الدفاع. وكأن كاتب سناريوهات الانقلابات في البلاد العربية شخص واحد ! ولكن ما إن استتب له الأمر حتى أزال القناع المدني، وأسفر عن وجهه العسكري، فكان المشهد الثاني من "الدراما" الجزائرية سنة 1965 حين انقلب وزير الدفاع بومدين، وهو الحاكم الفعلي على رئيسه الشّكلي بن بلة، فأودعه السجن تحت مُسمّى الإقامة الجبرية. ومعلوم أنه لم يتم إطلاق سراحه إلا بعد اندلاع أحداث أكتوبر 1988، على عهد الشاذلي بن جديد، التي راح ضحيتها أزيد من 500 مواطن جزائري برصاص الجيش "الوطني الشعبي"..يا حسرتاه على "الوطني" وعلى "الشعبي" المُفترى عليهما ! ولكن ماعلاقة ما سبق بقضية الصحراء ورمالها الحارقة وكُثبانها المُتحركة؟ بعدَ الانقلاب على السياسيين الذين فجروا الثورة الجزائرية وقادوها، تنصل الحكام العسكريون الانقلابيّونمن كل الالتزامات التي أعطتها الحكومة المؤقتة الجزائرية وقياداتها السياسية للمغرب، بخصوص الصحراء الشرقية التي تضم ما يقرب من ثلث أراضي خارطة "الجزائر الفرنسية". حيث تمتد الأراضي المغربية، التي اقتطعتها فرنسا، من لقنادسه ولعبادلة وكولومب-بشّار وتندوف إلى توات وكورارةوتيدكلت، والسّاورة وعين صالح وكل العرق الغربي.. وصولاً إلى الحدود التاريخية للمغرب مع الأزواد. ولمن أراد استكشاف هذه المناطق ومراحل اقتطاعها ما عليه إلا أن يعود إلى الأرشيف الفرنسي والحربي منه بالخصوص ما بين سنتي 1900 و 1952، وجزء من هذا الأرشيف بخرائطه متاح اليوم على الشبكة الافتراضية. كما يمكن الاطلاع على الأرشيف العثماني الذي نشرته تركيا في السنين الأخيرة، وطبعاً أرشيف الخزانة الملكية بالرباط الذي يزخر بظهائر تعيين القواد والقضاة وشيوخ الزوايا في كل هذه المناطق، ورسائل مبايعة أعيان وممثلي سكان تلك الربوع وقبائلها مثل ذوي منيع وجرير وحميان، وغيرهم. لكل الأسباب التي ذكرنا، وعلى رأسها قطع الطريق أمام مطالب المغرب باسترجاع الصحراء الشرقية، والتي تؤيدها مطالب سكان هذه المناطق والذين عبروا عن ذلك من خلال انتفاضة 1953 بعد نفي محمد الخامس، ورفع ساكنة تندوف العلم الوطني سنة 1956 عند استقلال المغرب، ثم الوفود التي جاءت لتجديد البيعة سنة 1957، وبعدها الوفود التي حضرت إلى فاس سنة 1962 لتبايع الحسن الثاني وتطالبه بالعمل على عودة الصحراء الشرقيةإلى المغرب. لأجل ذلك كله وجد النظام الجزائري ضالته في شباب الساقية الحمراء ووادي الذهب الذين كان يدعمهم القذافي من أجل الإطاحة بالنظام الملكي في المغرب. واستشعر حكام "قصر المرادية" بحدسهم التآمري، أهمية هذه الورقة الصحراوية في قلب كفة الصراع الإقليمي مع المغرب لصالحهم. وسنرى كيف ذلك في المقال القادم.