(2) في الغرب اليوم جاليات إسلامية باتت تشكل ثقلاً سياسياً يحسب حسابه، ورغم عدم ارتقاء الأداء الإسلامي بعد إلى ما يتناسب والقدرة على العطاء والقدرة على التأثير، إلا أن ثمة ما يشير إلى الاتجاه نحو ذلك، وخاصة بعد أن حفزت أحداث الحادي عشر من سبتمبر وما تلاها من تصاعد وتيرة الأحداث في فلسطينالمحتلة المسلمين المقيمين في الغرب على التمسك بهويتهم والدفاع عن قضايا الحق في أمتهم، بل لقد فتحت هذه الأحداث أعين كثير من المسلمين على فرص لم تكن متاحة من قبل يمكن لو استغلت بحكمة أن تؤثر في تغيير قناعات الرأي العام وفي المواقف المتخذة من قبل صناع القرار. وفي عهد شارون بالذات، ونظراً لما تميزت به سياساته من حماقة غير مسبوقة في مطبخ السياسية الصهيوني، لم تعد المعاناة الفلسطينية بسبب الاحتلال خفية على أحد. ومما لاشك فيه أن الأحداث الأخيرة أثبتت تنامي التعاطف الشعبي في الغرب مع تطلعات الشعب الفلسطيني في الحرية والتحرير. وهذا التعاطف هو بلا شك ثمرة التضحيات التي يقدمها الأهل الصامدون في فلسطين والتي يمكن أن يستثمرها المسلمون المتواجدون في الغرب الذين تعتبر قضية فلسطين بالنسبة لهم قضية أساسية، من أهم ما تتميز به عن غيرها من القضايا التي تشغل بال المسلمين في الغرب أنها تجمع ولا تفرق، وأن طابعها الإنساني يجمع حولها البشر من كل الملل والنحل. لقد أثارت الممارسات الإسرائيلية ضد الفلسطينيين حفيظة الرأي العام في أرجاء العالم، وكان من نتيجة ذلك أن هرع الإسرائيليون ومؤيدوهم في محاولات يائسة ومحمومة لإصلاح ما خلفته استراتيجية شارون لمكافحة "الإرهاب" من خراب على صعيد سمعة إسرائيل التي ما فتئت تتباهى ويتباهى أنصارها في الغرب بأنها الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط والدولة التي صيغت على نمط النموذج اللبرالي الغربي. منذ تصاعد الأحداث في الأراضي المحتلة منذ عام 1967 وإثر الاجتياحات الإسرائيلية للمخيمات والمدن والقرى، بذلت الجاليات الفلسطينية والإسلامية في الغرب، مؤيدة في ذلك بأنصار القضية من غير المسلمين، جهوداً مكثفة لتخطي عتبة التعاطف مع الشعب الفلسطيني والارتقاء إلى مستوى الفعل الجاد دعماً لصمود الشعب الفلسطيني ولمقاومته. ومما يشجع على ذلك أن الرأي العام في الغرب أكثر استعداداً اليوم منه في أي وقت مضى للإنصات والاستماع لوجهة النظر الإسلامية، التي ترى عدم شرعية الكيان الصهيوني في فلسطين. ولاشك أن مثل هذا التحول لدى الرأي العام يشكل تحدياً لكل الذين يسعون لتنوير الرأي العام ويخوضون حملات تستهدف مواجهة ودحض الدعاية الصهيونية التي طالما كانت لها اليد الطولى في مخاطبة الرأي العام الغربي وتشكيل القناعات لديه. ومن هنا يأتي التأكيد على أهمية أن يطور المسلمون في الغرب خطاباً واضحاً ومقنعاً وقوياً ومتماسكاً وقادراً على الدفاع عن حق الشعب الفلسطيني في مقاومة الاحتلال. ومما يبعث على الأمل في هذا المجال أن حوارات ولقاءات على مستويات عدة بدأت تجري في أوساط الجاليات المسلمة في أوروبا وفي الولاياتالمتحدةالأمريكية بهدف التباحث حول ما ينبغي عمله لتطوير خطاب يستند إلى الثوابت ويستخدم لغة بسيطة وواضحة. ومما يجدر تناوله في مثل هذه اللقاءات والحوارات ما يلي: 1. أهمية الكشف للرأي العام عن جذور الصراع، فالتاريخ مهم جداً، ولعل أهم مصادر الخلل في التغطية الإعلامية الغربية لأحداث المنطقة يكمن في تجاهل جذور الصراع والعزوف عن تثقيف الرأي العام بتاريخ القضية الفلسطينية. فالإعلام في العادة يعطي الانطباع بأن جماعتين متجاورتين من العرب واليهود تتنازعان على أرض أو مصادر طبيعية وأنهما تفشلان في التوصل إلى حل وسط مما يستدعي التدخل الدولي لفض النزاع وإنهاء الصراع. ليس يخفى على من لديه أدنى معرفة بالتاريخ بأن الصراع لا علاقة له بنزاع على أرض أو مصادرولم يكن في يوم من الأيام كذلك، بل مصدر الصراع هو حدوث غزو أجنبي للمنطقة رأس حربته تجمع من المهاجرين اليهود الذين لا ينتمون إلى المنطقة ولم يكونوا يوماً من الأيام جزءاً منها. يقوم هذا التجمع اليهودي بدور الجماعة الوظيفية بينما اللاعبون الحقيقيون هم صناع القرار في المنظومة الغربية المهيمنة على العالم فيما بات يعرف النظام الدولي. يبنغي أن تتضمن شروحنا لإصل الصراع مقدمة موجزة لتاريخ المنطقة القديم يتلوها توسع في سرد أهم مراحل التاريخ المعاصر منذ القرن التاسع عشر الذي شهدت أوروبا خلاله تحولات مهمة مهدت للمشروع الصهيوني وساهمت في إنجاحه، مروراً بالحرب العالمية الأولى وما تمخضت عنه من إعادة رسم للخارطة وخاصة في منطقتنا وتقاسم للنفوذ الاستعماري فيها ونشوء الدولة القطرية المعاصرة، ووضع فلسطين تحت الانتداب وصدور وعد بلفور وتدافع المهاجرين اليهود عليها، ثم ظهور النازية والفاشستية، ثم الحرب العالمية الثانية وما بات يعرف بالمحرقة ثم نشوء الكيان الصهيوني في فلسطين. 2. من المفيد أن يتضمن الخطاب الإسلامي للغرب شرحاً لما كان عليه الحال عبر تاريخ المنطقة العربية من تعايش بين أتباع الديانات الثلاث. والفكرة هنا هي التأكيد على أن الصراع لم ينشأ بسبب عداوة المسلمين لليهود أو كراهيتهم لهم، بل طالما استقبل المسلمون ضحايا الاضطهاد الغربي من اليهود ووفروا لهم الملجأ الآمن والبيئة المواتية للإبداع في كافة المجالات. بمعنى آخر، لا علاقة للصراع الدائر اليوم في الشرق الأوسط بخلاف عقائدي، بل إن هناك من اليهود اليوم رغم قلتهم من يشاركنا الاعتقاد بعدم شرعية "دولة إسرائيل" ويرى كما نرى أن الأمن والاستقرار والسلام لن يتحقق إلا بزوال هذا الكيان القائم على الظلم والإجرام. كما ينبغي أن يتضمن الخطاب تأكيداً على الدور الأوروبي في إقامة "إسرائيل" وخاصة فيما يتعلق بالمحرقة النازية التي لولاها لما اقتنع كثير من اليهود بجدوى المشروع الصهيوني ولظلوا معارضين له كما كان حالهم قبل المحرقة. 3. من المهم أن يحدد الخطاب بوضوح "من هو العدو"، وأن يكون هذا التعريف ضيقاً بحيث لا تتسع دائرة من يشملهم فلا ينبغي أن توسع جبهة العداء بلا ضرورة. فالعدو هو من تورط في هذا العدوان ومن يساند المعتدين ويدعمهم. من شأن مثل هذا التحديد أن يوسع دائرة الحوار مع الغربيين. فكثير من الذين يتعاطفون أو حتى يؤيدون الكيان الصهيوني إنما يفعلون ذلك جهلاً وبفعل الدعاية الصهيونية التي تصور اليهود على أنهم الضحية والعرب على أنهم المعتدون المشبعون بالحقد والكراهية. من المهم أن نتوجه إلى الناس بخطاب إنساني يذيب ما بيننا وبينهم من جليد ويزيل ما يفصلنا عنهم من عقبات حتى نتمكن من إقناعهم بشيطانية الفكرة الصهيونية وبالطبيعة الشريرة للمشروع الصهيوني التي لا يقتصر شرها على الفلسطينيين والعرب والمسلمين بل ويوشك أن ينال من البشرية جمعاء. ينبغي أن تقارن الصهيونية بنظام الأبارتيد (الفصل العنصري) البائد في جنوب أفريقيا. والهدف من ذلك في نهاية المطاف هو زعزعة وإضعاف التحالف الداعم لإسرائيل بشقيه اليهودي وغير اليهودي. 4. يحتاج المسلمون إلى التأكيد على حقيقة أن الفلسطينيين ليسوا أول ضحايا للاحتلال الأجنبي، فالتاريخ الإنساني والتاريخ المعاصر بشكل خاص يزخر بالنماذج. ولذلك فلا ينبغي استهجان أن يناضل الفلسطينيون أو يقاوموا. من الأمثلة التي تهم الرأي العام الغربي: المقاومة الفرنسية ضد النازية، والمقاومة الفيتنامية ضد الوجود العسكري الأمريكي، ونضال شعب جنوب أفريقيا بقيادة المؤتمر الوطني ضد نظام الأبارتيد. علينا أن نؤكد أنه رغم قعود ما يسمى بالمجتمع الدولي ممثلاً بالأمم المتحدة عن اتخاذ اجراءات تعيد الحق إلى نصابه في فلسطين، فإن نضال ومقاومة الشعب الفلسطيني مبررة ومسنودة بكافة الإعلانات والمواثيق والمعاهدات الدولية. 5. ليس من مصلحة القضية الفلسطينية أن يتضمن الخطاب الإسلامي طرح حلول نهائية للصراع، بل ينبغي ألا ينشغل المسلمون بذلك. ما ينبغي أن يصر عليه المسلمون في الغرب وأن يلزموا أنفسهم وأصدقاءهم به هو إقناع العالم بالطبيعة الشريرة للصهيونية وبحق الشعب الفلسطيني في المقاومة والنضال حتى يستعيد حقوقه المشروعة. أما عن الصورة التي قد ينتهي إليها الصراع، فإنها ستتوقف على اختيارات الأجيال القادمة التي ستحسم الأمور في عهدها، وتتوقف على الظروف التي يحصل فيها الحسم النهائي. ولذلك ينبغي ألا يتورط المسلمون وأنصار القضية الفلسطينية في مشاريع تتحدث عن "دولة فلسطينية مستقلة" أو عن "دولة ثنائية القومية" أو عن "حل الدولتين المتجاورتين". فكل هذا لا قيمة له، وضرره أكبر من نفعه. ما يهم فعلاً هو الإصرار على زوال الاحتلال، وعلى أن الصهيونية عدوة للإنسانية كما أن النازية كانت عدوة للإنسانية وكما أن الأبارتيد كان عدواً للإنسانية. 6.يستهدف هذا الخطاب على المدى البعيد إقناع الرأي العام في الغرب، بما في ذلك السياسيين وصناع القرار، بأن ما يلجأ إليه الفلسطينيون من وسائل مقاومة ينبغي أن يعتبر مشروعاً، وأن يوصف نضالهم بأنه مشروع تحرير وطني، وأن تنزع عنه صفة الإرهاب. ينبغي أن يسعى المسلمون في الغرب ومن يساند حقهم المشروع في فلسطين لأن تكون ثمرة جهودهم نشوء حركة عالمية لمناهضة الصهيونية كتلك الحركة التي ناهضت التمييز العنصري وساهمت بشكل فعال في إنهاء نظام الأبارتيد من خلال المقاطعة والتظاهر والضغط على السياسيين وصناع القرار. د. عزام التميمي مدير معهد الفكر السياسي الإسلامي - لندن