المن والأذى يبطل الصدقات قال تعالى:(يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن و الأذى كالذي ينفق ماله رئاء الناس و لا يؤمن بالله و اليوم الآخر فمثله كمثل صفوان عليه تراب فأصابه وابل فتركه صلدا، لا يقدرون على شيء مما كسبوا و الله لا يهدي القوم الكافرين) البقرة:263. آداب الإنفاق مر معنا في النداء السابق الأمر بالإنفاق في قوله تعالى:( يا أيها الذين آمنوا أنفقوا مما رزقناكم)، و هو أمر عام بالإنفاق دون بيان لشروطه وآدابه، فجاءت هذه الآية تبين بعض آداب الإنفاق الذي ندعى إليه.و تقدمها أيضا قوله تعالى:(لذين ينفقون أموالهم في سبيل الله ثم لا يتبعون ما أنفقوا منا و لا أذى لهم أجرهم عند ربهم و لا خوف عليهم و لا هم يحزنون،قول معروف خير من صدقة يتبعها أذى و الله غني حليم )البقرة 262 ، و هذا يعلمنا ضرورة الانتباه إلى كل الآيات التي تأتي في الموضوع الواحد . و للإشارة فإن أخطاء كثيرة انتشرت بسبب الاعتماد على آية واحدة دون الانتباه إلى ما جاء في نفس المعنى في باقي سور القرآن الكريم، و كذا ما بين صلى الله عليه و سلم من ذلك و غير ذلك من قواعد التفسير.لأن الاستنباط من القرآن و الاستدلال به ليس بالأمر السهل، فليس لكل من يحفظ آية أو آيتين أن يغتر بحفظه و يظن أنه أحاط بالعلم و علم الدليل . احذر من أن يبطل عملك و التحذير من إبطال الأعمال الذي تفيده الآية جاء في القرآن في موضعين وكلاهما خطاب للمؤمنين، الأول هو هذه الآية( لا تبطلوا صدقاتكم ) وهي خاصة بالصدقات ؛ و الثاني قوله تعالى:( يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله و أطيعوا الرسول و لا تبطلوا أعمالكم) سورة محمد: 34 ، وهي عامة في سائر الأعمال. و إنما كان التحذير من الإبطال خاصا بالمؤمنين لأن أعمال الكفار لا قيمة لها عند لله، قال تعالى:( مثل الذين كفروا بربهم أعمالهم كرماد اشتدت به الرياح في يوم عاصف) إبراهيم: 21 ؛وقال تعالى:(و الذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا ووجد الله عنده فوفاه حسابه و الله سريع الحساب) النور:38. وهكذا فأعمال الكفار هي بين سراب ورماد اشتدت به رياح في يوم عاصف؛فهي إذن باطلة من أصلها. وقد بين سبحانه وتعالى أسباب إبطال الصدقات في قوله:(لا تبطلوا صدقاتكم بالمن و الأذى) فذكر "المن" و هو التبجح و التطاول على المعطى له و تذكيره بالنعمة ؛و "الأذى" ويأتي بمعنى الإساءة و الضر ، و يدخل فيه كل ما يتأذى به هذا المعطى له، كالتشهير به بين الناس و تعييره بالفقر، و يدخل فيه من باب أولى ضربه أو إذلاله بأي معنى من المعاني ،و منبع الأذى أمران: -كراهية المعطي إعطاء ماله و شدة ذلك على نفسه. -رؤيته أنه خير من الفقير. و كلاهما منشؤه الجهل، فإن كراهية إعطاء المال حمق لأنه من بذل المال لطلب رضا الله وثوابه، و قد علم المعطي أن ما يحصل له من بذل المال من الأجر أشرف و أعظم . و في هذا المعنى يأتي قوله تعالى:( و ما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله ، هو خيرا و أعظم أجرا) المزمل:18 . (وما تنفقوا من خيرفلأنفسكم) فعلى المؤمن و هو يتصدق أن يكون شديد الحرص أن يتقبل الله منه مستحضرا، أنه يقدم ذلك لنفسه لا لغيره، كما دل على ذلك قوله تعالى:( وما تنفقوا من خيرفلأنفسكم) البقرة :271 و أنه يدخر ذلك عند الله كما قال تعالى:( و ما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله إن الله بما تعملون بصير) البقرة:109.. أما ظن المنفق أنه خير من الفقير فجهل بخطر الغنى، لأن مراتب الناس تتفاوت بدرجة تقواهم لا بعوارض الغنى و الفقر(إن أكرمكم عند أتقاكم) الحجرات :13 .وهو ما يستفاد من حديث رسول الله صلى الله عليه و سلم الذي أخرجه البخاري وغيره عن سهل بن سعد الساعدي أنه قال : >مر رجل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لرجل عنده جالس: ما رأيك في هذا؟ فقال: رجل من أشراف الناس، هذا والله حري إن خطب أن ينكح وإن شفع أن يشفع. قال :فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ ثم مر رجل آخر فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما رأيك في هذا؟ فقال: يا رسول الله هذا رجل من فقراء المسلمين، هذا حري إن خطب أن لا ينكح وإن شفع أن لا يشفع وإن قال أن لا يسمع لقوله. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هذا خير من ملء الأرض مثل هذا ". إن شعور الغني أو من حوله بالأفضلية لمجرد غناه شعور لا يقره الشرع، بل هو من بقايا الجاهلية التي عبر عنها بنو إسرائيل في رفضهم أن يكون طالوت ملكا :(قالوا أنى يكون له الملك علينا و نحن أحق بالملك منه و لم يوت سعة من المال قال إن الله اصطفاه عليكم وزاده بسطة في العلم و الجسم )البقرة: 245، إنهم لما وازنوا بين البسطة في العلم والجسم من جهة و بين المال من جهة ظنوا أن السعة في المال أحق بتولية الملك، و هذا فاسد من جهات متعددة . الصدقة بين النفاق والمراء ومن الظنون الباطلة ظن الأغنياء أنهم بدون إنفاقهم لن يعيش الفقراء و هذا مماعابه سبحانه وتعالى على المنافقين وهو يفضح أوهامهم الباطلة في قوله تعالى عنهم: (هم الذين يقولون لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا، ولله خزائن السماوات والأرض ولكن المنافقين لا يفقهون) المنافقون:7 . وما أكثر الذين يتربصون بالإسلام والمسلمين الدوائر ويرددون مثل هذه القولة الشنيعة بصيغ مختلفة ونسوا وجهلوا أن خزائن الله مملوءة لا تنفذ أبدا، وأنه هو الرزاق ذو القوة المتين :(ولله خزائن السماوات والأرض ولكن المنافقين لا يفقهون) وقوله تعالى: (كالذي ينفق ماله رئاء الناس ولا يؤمن بالله واليوم الآخر) تحذيرمن التشبه بأخلاق المرائين الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر، أي لا تكونوا في إتباع صدقاتكم بالمن والأذى كالذي ينفق ماله رئاء الناس وهو كافر لا يؤمن بالله واليوم الآخر. ووجه الشبه عدم الانتفاع مما أعطوا بأزيد من شفائها لما في صدورهم من حب التطاول على الضعفاء. وإذا كان هذا الحال لا يقبله أحد و لا يرضاه، فالحذر كل الحذر من أن نقع فيه ثم نسميه بغير اسمه ونختلق له أسماء أخرى ويصدق فينا قوله تعالى:(الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا)الكهف: 99. وقوله تعالى:(فمثله كمثل صفوان عليه تراب فأصابه وابل فتركه صلدا) هو مثل ضرب للمرائي بإنفاقه الذي يتبع نفقته مناً أو أذى، فقال (فمثله كمثل صفوان) وهوالحجر الكبير الأملس، (عليه تراب فأصابه وابل) وهو المطر الشديد (فتركه صلداً) أي فترك الوابل ذلك الصفوان صلداً أي أملس يابساً. شبه الله سبحانه هذا المنفق ماله رياء بصفوان عليه تراب يظنه الظان أرضاً منبتة طيبة، فإذا أصابه وابل من المطر أذهب عنه التراب وبقي صلداً؛ فلا التراب بقي ولا هو أنبت شيئا، فكذلك هذا المرائي فإن نفقته لا تنفعه كما لا ينفع المطر الواقع على الصفوان الذي عليه تراب، وكذلك أعمال المرائين تذهب وتضمحل عند الله (لا يقدرون على شيء مما كسبوا )أي لا ينتفعون بما فعلوه رياءً ولا يجدون له ثواباً :(والله لا يهدي القوم الكافرين) أي لا يسددهم لإصابة الحق في نفقاتهم وغيرها، ولكنه يتركهم في ضلالتهم يعمهون. الأعمال كلها صدقات ولا ننسى في الأخير أن مفهوم الصدقات أوسع من بذل الدراهم، فكل ما سبق من تحذير ينطبق على سائر الأعمال إذ كلها صدقات إما إن تقبل وإما أن ترد على أصحابها، وفي الحديث:" وأمر بالمعروف صدقة ونهي عن المنكر صدقة "أخرجه مسلم وغيره. الدكتور: مولاي عمر بن حماد أستاذ التفسير بكلية الأداب بالمحمدية