من الناحية النظرية، ينبغي للثورات الشعبية أن تفرز وجوها جديدة منسجمة مع اختيارات الشعوب التي أسقطت النظام القديم ومعها ينبغي أن تسقط جميع الرموز القديمة، لكن خبرة الثورات العربية يمكن أن تفرز نظريات مخالفة. التجربة التونسية تضع أمامنا فرضية مخالفة للبحث، وهي أن الثورة يمكن أن تنتصر حينما تنجح في ترسيخ المسار الديمقراطي وفي تثبيت دعائمه بطريقة تمنع أي إمكانية للردة الديمقراطية أو الرجوع إلى النظام القديم.. هذه الفرضية ليست نابعة من إرادة الثوار أو من رغبتهم الذاتية، وليست هي النظرية النموذجية التي كان يحلم بها من خرجوا إلى الشارع للمطالبة بإسقاط النظام، ولكنها محصلة تفاعل الكثير من المعطيات الداخلية والخارجية التي تجعل معادلة النجاح في بناء الديمقراطية تتجاوز الآليات المتعارف عليها في الديمقراطيات الحديثة، وتتجاوز المنظور الكمي المرتبط بنتائج صناديق الاقتراع وبحكم الأغلبية، لتستحضر بنية النظام الداخلية التي من الصعب تفكيكها في بضع سنوات، كما حجم التدخل الخارجي الذي من الصعب غض الطرف عن قدرته الهائلة على التأثير وخاصة تأثير المال والجاه.. بغض النظر عن الدلالات الرمزية لفوز السياسي العجوز الباجي قايد السبسي بنتائج الانتخابات الرئاسية في تونس، فإن يوم الأحد المنصرم سيظل منقوشا في ذاكرة التونسيين بعدما سلم الرئيس السابق منصف المرزوقي بهزيمته ودعا التونسيين إلى التزام الهدوء والاستقرار.. إنها لحظة تؤرخ لولوج «التوانسة» نادي الدول الديمقراطية بعدما طووا صفحة المرحلة الانتقالية لدخول مرحلة تثبيت دعائم الخيار الديموقراطي الذي انطلق مع شرارة الثورة البوعزيزية في كانون الاول/ديسمبر 2010.. أختلف مع التحليلات التي ترى في انتخاب الباجي السبسي عودة للبورقيبية، وأفترض بأن السلوك الانتخابي للمواطن التونسي تحكمت فيه اعتبارات سياسية مختلفة، بعضها مرتبط بالتصويت العقابي لأداء أحزاب الترويكا بالنظر لحجم الانتظارات الشعبية التي ارتفعت مع مناخ الثورة والمزاج الشعبي العام المتطلع إلى نتائج اقتصادية واجتماعية سريعة لم تسمح بها ظروف المرحلة الانتقالية، وبعضها محكوم بالنظرة التي كرستها العديد من وسائل الإعلام وهي: الاستقرار والأمن أولا..والاستقرار سيتحقق مع السبسي أكثر لأنه مقبول من طرف دوائر دولية ومدعوم من طرف أخرى إقليمية، ولأن التصويت على المنصف المرزوقي سيجلب علينا سخط العديد من العواصم الغربية الرافضة لمواقفه التي لن تنسى له خطاباته في الجمعية العامة للأمم المتحدة ورفضه للانقلاب العسكري في مصر، والجارة الجزائر تنظر لتقاربه مع المغرب بكثير من التوجس والحيطة وجندت الكثير من جهودها لبعث رسائل رافضة لانتخاب المرزوقي، وبعضها مرتبط بتأثير المال السياسي، المال الخليجي الرافض للثورات العربية متهم بدعم حملة الباجي قايد السبسي وحكاية السيارتين المصفحتين لم تعد خافية على أحد، وخيرا فعل الرئيس الجديد بإهدائهما إلى وزارة الداخلية.. الشعب التونسي أظهر للعالم بأنه مؤهل لقيادة أول تجربة للانتقال الديمقراطي ناجحة في العالم العربي بعد ثورة شعبية أطاحت بأحد رموز الدكتاتورية في العالم، كما أظهر ذكاء ملفتا حينما أعطى صوته للباجي قايد السبسي بنسبة 55 % بفارق بسيط عن المنصف المرزوقي بنسبة 45%، وهي نسبة لها دلالاتها السياسية التي لا تخفى على شيخ مجرب مثل زعيم نداء تونس.. حزب النهضة بدوره أبان عن استيعابه الجيد لطبيعة المرحلة، ولم يخرج من الساحة السياسية فقد بوأه الناخب التونسي الرتبة الثانية في الانتخابات التشريعية بفارق متواضع عن حزب نداء تونس الذي سيتحمل مسؤولية استكمال مرحلة الانتقال الديمقراطي وبناء المؤسسات الجديدةلتونس والتصدي للتحديات الاقتصادية والاجتماعية الصعبة، لكنه قبل ذلك فهو مستأمن على رصيد الحرية والديمقراطية الذي انتزعه الشعب التونسي وقدم بصدده التضحيات، ومطالب بأن يستثمر في التراكم الإيجابي الذي خلفته تجربة أزيد من ثلاث سنوات في كيفية إدارة الاختلاف مع المعارضين. أتصور أن ذكاء الناخب التونسي يستحضر المعطيات الإقليمية والظروف الدولية أثناء عملية التصويت، ولذلك منح لحركة النهضة موقعا مريحا في المعارضة لإعادة بناء الذات الحزبية التي أنهكت خلال هذه المرحلة، وبناء نموذج جديد من المعارضة البناءة والناصحة لم ينجح خصومها في السابق في بلورتها. مدة ثلاث سنوات الماضية كانت حبلى بالإنجازات المؤسساتية الكبرى، فقد نجحت تونس في التوافق على أفضل دستور في العالم العربي وأكثره انفتاحا وديموقراطية وضعه مجلس تأسيسي منتخب لم يطعن في نزاهته أحد، كما انخرطت الطبقة السياسية والحقوقية في مشروع العدالة الانتقالية لقراءة ماضي الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان ووضع الآليات المؤسساتية والقانونية لضمان عدم تكرار ما حصل في الماضي وهي»هيئة الحقيقة والكرامة»، ستتولى قراءة ماضي الانتهاكات من اليوم الأول لاستقلال تونس إلى يوم خروج هذه الهيئة إلى الوجود، بما في ذلك إمكانية المساءلة القضائية للذين ثبت تورطهم في الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، بالإضافة إلى النظر في الفساد والجرائم الاقتصادية التي وقعت في عهد بورقيبة وبنعلي.. وهو عمل كبير يستبطن في منهجيته إعادة كتابة التاريخ السياسي التونسي، والوقوف عند محطات الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان وفهم أبعادها وخلفياتها السياسية، وجبر ضرر الضحايا ووضع آليات عدم الإفلات من العقاب وضمانات عدم التكرار. كل هذه الإنجازات علينا أن نضعها في سياقها الجيوستراتيجي التراجعي وفي ظل بيئة إقليمية محيطة تجر إلى الأسفل وفي ظل جوار ليبي غير مستقر وجوار جزائري رافض لكل تحول ديموقراطي تعيشه دول المنطقة، وفي ظل أجندة سياسية واضحة لبعض القوى الإقليمية الرافضة للديمقراطية في البيئة العربية والإسلامية، وفي ظل ازدواجية معايير غربية لازالت مترددة في دعم الديموقراطية في العالم العربي.. فازالباجي قايد السبسي وانتصرت الثورة التي حققت جزءا من أهدافها المتمثل في التداول الديموقراطي على السلطة والقبول بنتائج الانتخابات، بعد بناء مؤسساتي ودستوري متين.. نجاح التجربة في تونس رسالة إلى العديد من النخب العربية والغربية بأن هناك مرحلة جديدة انطلقت في المنطقة..