قد يكون عنوان هذه المقالة صادما للمناضلين والنقابيين الذين يرون في الإضراب العام المقرر يوم الأربعاء، انتفاضة في وجه الحكومة الحالية التي يعتبرونها "قهرت" الفعل النقابي والاحتجاجي، وأخلفت إنجاز ما بشرت به من وعود لم يصل نصفها الأهم إلى الأرامل والفئات الهشة اجتماعيا. العنوان أعلاه لايقفز على المطالب الاجتماعية العادلة لفئات واسعة من المواطنين، واعتراضاتهم على السياسات الحكومية الحالية والمرتقبة على السواء، خاصة رؤية الحكومة لإصلاح صناديق التقاعد، لكن العنوان يدعو إلى تجاوز دائرة الداعين "العلنيين" إلى الإضراب العام، والأسباب الدافعة إلى المشاركة فيه، إلى البحث عن "المحرضين الحقيقيين" على واقعة 29 أكتوبر. البحث عن "الرعاة الرسميين" لإضراب نهاية أكتوبر، كما يطرحه المقال، يقوم على تجميع أحداث ووقائع تمت وتتم اليوم، يستحيل عمليا وواقعا الإدعاء بأن الصدفة وحدها قدرت اجتماعها، في مثل هذه الظروف التي يمر منها نقاش إصلاح صناديق التقاعد. ويمكن على سبيل التلخيص السريع رصد ثلاث مؤشرات دالة، على أن الدعوة إلى الإضراب والدفاع عنه وضمان كل شروط نجاحه، بما فيها إرباك مؤسسات "دستورية" وإجبار مسؤوليها على التلكؤ في تقديم ولو رأي استشاري قد يضعف موقف الداعين الحقيقيين للإضراب وليس فقط أدوات تنفيذه. 1 – المؤشر الأول: موقف المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي: قبل شهر من اليوم خرجت الجرائد المغربية، بخبر مفاده أن الرأي الاستشاري لمجلس نزار بركة، سيكون داعما للحكومة في موقفها العام من إصلاح صناديق التقاعد، مع تقديم عدة نصائح للحكومة على شكل توصيات، حول التدرج في القيام بهذه الإصلاحات، في انتظار أن يحسم المجلس في جلسته العمومية ليوم الخميس 26 شتنبر في الصيغة النهائية للرأي الاستشاري. وفي يوم الحسم، أعلن نزار بركة رئيس المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي، تأجيل الرأي إلى اللقاء القادم، التي تأخر تأخر، ولين ير النور إلا يوم 30 أكتوبر!!! هكذا بكل بساطة، على المغاربة جميعا أن ينتظروا رأيا استشاريا، في مسألة مصيرية وحاسمة، لكن بعد فوات الحاجة إليه. الغريب حقاً أن أغلب الصحافة المغربية، كما أعضاء المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي قد حصلوا في شتنبر الماضي، على الرأي الاستشاري النهائي والرسمي، في حين لن يعلم المغاربة بهذا إلا بعد يوم واحد من الإضراب العام!!! الذي يريد من هم أقوى من نزار بركة رئيس المجلس نجاحه بأي ثمن، بهدف وحيد وواضح هو إحراج حزب العدالة والتنمية في التدبير الحكومي. ليس جديدا القول بأن المجلس لم يعترض على سيناريو الرفع من سن التقاعد، كما اقترحته الحكومة أي 62 ثم 65 على مراحل، بزيادة ستة أشهر في كل عام حتى تصل 65 سنة من 2016 بداية الإصلاح إلى نهاية 2021، كما اقترح أن تضاف للموظف 2,5 بالمائة على أن تتحمل الدولة نسبة 5,5 بالمائة، وأخيرا أوصى المجلس بمراعاة التدرج في الانتقال من 2,5 بالمائة إلى 2 بالمائة، وذلك بخفض النسبة ب 0,1 بالمائة كل سنة، لتصل إلى 2 بالمائة متهم السنة الرابعة من الشروع في إصلاح نظام التقاعد، وهي النقاط الثلاثة التي تعترض النقابات على صيغتها الحالية. 2 – المؤشر الثاني: الاجتماع المشترك للمجلسي البرلمان لمناقشة تقرير المجلس الأعلى للحسابات حول التقاعد: "إلى أجل غير مسمى"، قرر البرلمان تأجيل عقد اجتماع ثلاث لجان برلمانية من المجلسين، لمناقشة تقرير المجلس الأعلى للحسابات حول صناديق التقاعد، وسط تكهنات حول من يقف وراء هذا التأجيل المتكرر ودون إخبار النواب، مع تواصل الإضطراب في تحديد موعد عقد الاجتماع. قد يصلح "الارتباك" عنوانا لهذا الحالة، لكنه ليس ارتباكا عفويا، بل هو إرباك إرادي مقصود وعمدي، حتى لا يتعرف المغاربة على تقرير صدر قبل عام من الآن، يدعو إلى إصلاح صناديق التقاعد المهددة بالفراغ من احتياطياتها المالية. ولأن مسلسل الغرابة في هذا الإضراب لا يتوقف، فقد قرر رئيسا مجلسي النواب رشيد الطلبيات العلمي، من الأغلبية، ومحمد بيد الله عن المستشارين، تأجيل مناقشة تقرير مجلس جطو حول إصلاح أنظمة التعاقد، إلى أجل غير مسمى، بعد تردد وتأجيل الاجتماع لثلاث مرات، توصل فيها أعضاء لجنة المالية والتنمية الاقتصادية ولجنة مراقبة المالية العامة بمجلس النواب، ولجنة المالية والتجهيزات والتخطيط والتنمية الجهوية بمجلس المستشارين، أولا برسالة نصية قصيرة تفيد بتأجيل لقاء مناقشة تقرير مجلس جطو حول صناديق التقاعد. ليس عاديا ولا طبيعيا أن يتوصل النواب بثلاث رسائل نصية قصيرة خلال 12 ساعة فقط، تحدد مواعيد لعقد اللقاء المشترك لمناقشة مستقبل صناديق التقاعد، والإجراءات التي يقترحها مجلس جطو للخروج بالصناديق من أزمتها المالية الخانقة، قبل أن يصبح اللقاء حلما وموعده منتهى الأمل. الجميل في كل هذا الارتباك، أن المتسبب فيه متحكم في رئيسي مجلسي البرلمان، الذين يعتبران من الوجوه السياسية للمركب السلطوي، الذي لم يتراجع يوما عن استعمال وتوظيف كل شيء بغية إسقاط أو عرقلة على الأقل المحاولة الرابعة للانتقال الديموقراطي في المغرب. 3 – المؤشر الثالث: التسخينات أ – زيادة "مدينة بيس": في فاتح أكتوبر استيقظ "البيضاويون"، اللذين يشكلون حوالي 20 بالمائة من المغاربة، على خبر زيادة 1 درهم لكل تذكرة عبر حافلات نقل المدينة، التي تعتبر شركة تدبير مفوض لخدمة النقل من قبل مجلس مدينة الدارالبيضاء، بعد انتفاضة بعض المستشارين، وبتزامن مع زيارة الملك، تم التراجع عن القرار لمدة أسبوع واحد فقط، قبل أن تعود إليه شركة النقل، لكن هذه المرة في ظل صمت مريب من قبل المستشارين الجماعيين، بما فيهم منتخبو العدالة والتنمية!!! ب – دعوة الاتحاد المغربي للشغل: يعرف المغاربة من تكون نقابة الاتحاد المغربي بشغل، وزال شكهم في هويتها بعد طرد "الجناح الديموقراطي" من النقابة، هذا الجناح الذي ينتمي سياسيا إلى حزب النهج الديموقراطي، الذي يعتبر من بين أحزاب المعارضة الجذرية للنظام الملكي، ليخلص الجو لتيار "مخاريق" الذي حضي بدعم مطلق من المركب السلطوي وأجهزة الدولة في معركته، كما أن مخاريق قاد جولات مفاوضات من أجل إلحاق نقابته بحزب الأصالة والمعاصرة، الذي أعلن رعايته السياسية للإضراب!!! ت – مشاركة التقدم والاشتراكية: على غير العادة، حسم التقدم والاشتراكية موقفه من الإضراب المرتقب قبل أكثر من أسبوعين، الغريب أن حزب الكتاب الذي دعا أعضاءه إلى المشاركة في المعارك النضالية، حزب مجهري وثانيا شريك في الحكومة، فيكف له والحالة هاته أن يدعو أعضاءه إلى الإضراب ضد مشاريع قوانين حكومية هو جزء من صناعتها!!! ج – زيادة أسعار الماء والكهرباء: شهرا واحدا بعد دخول إصلاحات الحكومة على المكتب الوطني للكهرباء والماء، التي قالت الحكومة أنها تتمثل في زيادة لا تتجاوز 20 درهما كأعلى سقف لها، فوجئ المغاربة بارتفاعات صاروخية تعدت في أغلب مدن المغرب 200 درهم بكثير، مما خلف حالة سخط عارم واحتجاجات متفرقة على تدخل الدولة الذي سمي إصلاحا حكوميا، أياما قبل الإضراب العام!!! د – زيادة مشتقات القمح: يوم الجمعة 24 أكتوبر، ارتفعت أسعار القمح ومشتقاته بما فيها المعجنات بدرهم 1 على الأقل للكيلوغرام الواحد من هذه المنتجات، دون أن تكون الحكومة قد قررت هذه الزيادة، والمثير أن هذه الزيادة لم يعلن عنها تجار الجملة ولا أقرتها الحكومة، فقط لمسها المواطنون الذين اكتوت جيوبهم بلهيبها!!! إن الرابط بين المؤشرات أعلاه، ليس الصدفة أو حسن تدبير نقابة واحدة أو تحالف نقابي، أو حتى حزب سياسي أو تجمع حزبي، بل هو عمل من له القدرة على التحكم في المؤسسات الدستورية والنقابات والأحزاب و المجالس المنتخبة والشركات الوطنية وجمعيات تجار الجملة والإعلام العمومي، دفعة واحدة، دون أن يظهر في الصورة، لأن لعبة التخفي تحقق له ماعجز عن تحقيقه الظهور. هذا الكيان الهلامي والتحالف المصلحي العابر للتنظيمات والمؤسسات، والقادر على التأثير في كل ما سبق، هو ما يطلق عليه ب_"المركب السلطوي"، الذي أحرجه الربيع الديموقراطي وحركة 20 فبراير، ولفظه الشارع في انتخابات 25 نونبر 2011، وأنهكته الحرب المفتوحة مع العدالة والتنمية، يصر في كل مرة على أن يصرخ في وجه الانتقال الديموقراطي وحكومته، مستعملا كل الوسائل، حتى يثبت لنفسه أن صراخه ما يزال عاليا، وأنه ما يزال خيار تحالف القوى المهزومة ديموقراطيا.