من الصعب تفنيد الأفكار السائدة حتى لو كان هنالك من الأدلة ما يثبت بطلانها. إلا أن الصعوبة تزداد عندما يوجد في أحداث العالم وأحواله ما يبدو، في الظاهر، كأنه يوفر البرهان المتجدد على صحة هذه الأفكار الخاطئة. من ذلك أنه قد قرّ في الإدراك العام في المجتمعات الغربية، منذ زمن، أن الدين هو مصدر كثير من النزاعات، بل أنه السبب الأساسي للعنف في معظم التاريخ البشري. أي أن الدين هو فتيل الحروب بقدر ما هو «أفيون الشعوب»، حسب القولة الماركسية الشهيرة. والمقصود بالدين هو، طبعا، شتى التأويلات البشرية لأي نظام اعتقادي، مع ما ينجم عنها من ممارسات. وليس من السهل اليوم إقناع المواطن البرازيلي أو الياباني أو النرويجي العادي بأن الديانة الإسلامية لا علاقة لها بأي من أحداث العنف التي عصفت على مدى العقود الماضية ببلدان مثل الجزائر، وباكستان، وأفغانستان، والعراق، واليمن، ونيجيريا والصومال، الخ. ذلك أنه لا وقت للناس العاديين للتمييز بين الديانة وبين من يدينون بها، ولا جلد لهم على تجشم عناء تحديد مدى التطابق، أو التناقض، بين مبادىء الدين وتصرفات أتباعه. بل إن معظم الناس يدركون الدين لا باعتباره نظريات وأفكارا مجردة، وإنما على أساس أنه مسلك بشري وممارسة اجتماعية. ولهذا فإن البوذية، بالنسبة لبقية العالم، إنما هي البوذيون والمسيحية هي المسيحيون، وكذلك الإسلام هو المسلمون. إلا أن مؤرخة الأديان البريطانية كارين آرمسترونغ تثابر منذ أمد بعيد على محاولة توعية الرأي العام في بلدان اللغة الانكليزية بحقيقة الدين الإسلامي. ولعل كتابها عن النبي محمد هو من أفضل ما كتب في السيرة النبوية بالإنكليزية دقة وإنصافا. وكثيرا ما تظهر على القنوات الإذاعية والتلفزية مدافعة عن الحقيقة التاريخية ومناضلة ضد الأفكار الشائعة، المتحيزة في معظم الحالات ضد الإسلام. أما كتابها الذي صدر قبل أيام بعنوان «الدين وتاريخ العنف»، فقد عملت فيه على تفنيد الرأي السائد القائل بأن الدين عنيف في جوهره وبأنه مصدر الحروب الكبرى. تدرس كارن آرمسترونغ حقيقة تسخير العنف في خدمة الدين مستعرضة أهم تجلياتها التاريخية من الزرادشتية، فاليهودية، والبوذية، وصعود النزعة الإنسانية في عهد النهضة الأوروبية، فالأصولية المسيحية في أمريكا، والقومية الهندوسية وبروز الحركات الجهادية. تنطلق الكاتبة من حقيقة بسيطة وقريبة إلينا، وهي أن الحربين العالميتين الأولى والثانية (أكبر حربين في تاريخ البشرية) لم تكن للدين علاقة بهما على الإطلاق. كما تدحض الرأي السائد بشأن النزعة الإنسانية لمفكري النهضة الأوروبية وفنانيها (أي القول بأنهم أتوا بفهم جديد للجنس البشري قائم على الإيمان بوحدة المنشأ والمصير)، حيث تبين أنهم لم يبدوا أي تعاطف مع شعوب أمريكا الأصلية التي أخضع الأوروبيون بعضها بأفتك الوسائل وأبادوا بعضها الآخر، هذا في حين أن الرهبان الدومينيكان قد نددوا بجرائم الغزاة الأوروبيين. ورغم أن آرمسترونغ لا تتطرق للمسألة، فإني أرى أن همجية الغزاة الأوروبيين في القارة الأمريكية، في القرنين 16 و17، إنما هي امتداد لهمجية الصليبيين الذين أتوا من الفظائع في بلاد العرب (ضد أهلنا من المسلمين والمسيحيين على حد سواء) ما لم يأته المغول، حيث كانوا، على سبيل المثال، يقتلون الأطفال ويأكلون لحومهم على طريقة شواء الطرائد والخرفان. ولهذا تقول آرمسترونغ إن فلسفة الحقوق الإنسانية، الجديدة آنذاك، لم تكن تنطبق على جميع الكائنات الإنسانية. وفي سياق التدليل على أن الديانات ليست أعنف من الأيديولوجيات، تقول الكاتبة إن جرائم محاكم التفتيش الإسبانية هي من أبرز أمثلة العنف الديني في التاريخ، ولكن التقديرات ترجح أن عدد ضحايا محاكم التفتيش في أعنف فتراتها، أي في الأعوام العشرين الأولى، لم تتجاوز ألفي ضحية. أما القوات الجمهورية فإنها أخمدت انتفاضة الفلاحين ضد الثورة الفرنسية في منطقة فندي عام 1794 بقتل حوالي ربع مليون (من أصل 800 الف) من الأهالي. كما أن ما لا يقل عن 17 ألفا من الرجال والنساء والأطفال قد أعدموا عامئذ تحت المقصلة. أما في القرن العشرين، فقد راح عشرات الملايين (ما يعادل أمما وشعوبا) ضحية لقرارات ماوتسي تونغ، وستالين، وهتلر وسلطات الخمير الحمر. ومع هذا كله، فإن الكاتبة تبين أن القول بأن الديانات ليست عنيفة في جوهرها لا يعني أنها سلمية أو مسالمة بالضرورة. ذلك أن العنف طاقة كامنة في كل الأنظمة الاعتقادية، سواء كانت دينية أم علمانية.