فجأة انهالت التوقعات الايجابية بتبوء وجه جديد لمنصب رئيس الوزراء في العراق. صحف عربية وعالمية عددت مناقب الرجل، ان لم تكن هي من صنعتها، تصريحات لمسؤولين اقليميين ودوليين جعلوا منه قنبلة نايترونية ستبيد كل مشاكل العراق، وربما المنطقة. كُتّاب وباحثون سياسيون عراقيون دفعهم الغلو في التفاؤل حد اعتبار اجادته للغة الانكليزية وقضائه ردحا من الزمن في الغرب، وانحداره الطبقي من وسط المدينة وليس من القرية كسالفيه، كلها صفات تضفي عليه العبقرية، متناسين ان غالبية الطبقة السياسية هم من ابناء المدن وقضوا زمنا طويلا في الغرب، ويحملون شهادات اكاديمية غالبيتها في الطب البشري وليس الحيواني، ومع ذلك جعلوا من العراق مسلخا بشريا كبيرا، ومقبرة ليس للاموات فقط، بل حتى من بقوا احياء، فهم مشاريع موت مؤجل حتى حين، بل انهم يؤكدون لنا كل يوم وعلى مدى اكثر من عقد من الزمن من قيادتهم للبلد، ان الثقافة الغربية التي عاشوا في كنفها لم تمس شعرة من تفكيرهم ولا سلوكهم السياسي والانساني، وكأن عقولهم كانت محنطة، والغريب انهم لم يتركوا ما في النظام والمجتمع الغربي من حسنات وراء ظهورهم حال عودتهم الى العراق فقط، بل تركوا حتى العقد الاجتماعي العراقي الذي كان قائما على اساس الهوية العراقية الجامعة منذ الاف السنين، واستبدلوه بهويات طائفية ومذهبية وقومية. واذا كانت فسحة الامل مطلوبة لتوسيع ضيق العيش، ففي السياسة لا توجد آمال واماني، بل وقائع، إما سوداء او بيضاء. اننا لا نريد ان نضع العصي في عجلة احد، ولا نتمنى ان يفشل هذا السياسي او ذاك، لان الفشل في بلادنا معناه جريان سيول جديدة من دماء الابرياء، لكن منطق التحليل السياسي العلمي، وليس العاطفي، يجبرنا على الذهاب الى آليات وصول رئيس الوزراء الجديد الى منصبه، للوقوف على حقيقة المواقف والنتائج. اولا، كما جاء المالكي من خلف الكواليس وبالصدفة، حلا لتسوية مشكلة رفض الاكراد وبعض الكتل الاخرى استمرار تولي الجعفري رئاسة الحكومة، جاء خلفه الحالي حلا للمشكلة نفسها، وايضا من خلف الكواليس، فلم يكن الرجل من قادة الصف الاول ولم يؤشر له نشاط سياسي مشهود طوال المرحلة السابقة من عمر العملية السياسية. ثانيا، ان اختياره لتولي المنصب الاول كان بدافع الحرص على استمرار المحاصصة الطائفية وديمومة ديكتاتورية البيت السياسي الشيعي، وليس بدافع التغيير السياسي الذي يُغلّب المصلحة الوطنية، حيث لم تكن الاطراف السياسية الشيعية، التي رفضت استمرار المالكي، تملك من الجرأة والشجاعة السياسية ما يؤهلها للقفز الى التحالف مع الاطراف الاخرى من خارج حضنها الطائفي، والاتيان برئيس وزراء جديد بدماء وطنية. ثالثا، حضر الرجل من البيت الحزبي نفسه الذي يتزعمه المالكي، وهو حزب الدعوة، المُصنّف منهجه الفكري وسلوكه السياسي على قائمة الاحزاب الطائفية. كما ان فشل الحزب سياسيا في ادارة البلاد لولايتين وفي ظل زعامتين منه، هما الجعفري والمالكي، جعل حتى بعض الاطراف الحليفة له تشك في قدرته على ادارة البلاد، حيث كان التيار الصدري قد اعلن صراحة اكثر من مرة بعدم جواز قدوم زعيم سياسي اخر من الحزب نفسه. رابعا، ان العملية السياسية كمنهج فكري وآليات سياسية ومنظومات عمل، هي بيئة ملائمة لاستنساخ عشرات مثل المالكي، ومن الخطأ التصور ان هذا وحده يحمل جينات مختلفة عن الاخرين. واذا كان التأييد المحلي والعربي والدولي والاممي قد انداح كالسيل لصالح حيدر العبادي فذلك ليس معناه دائما له، فبعضه غيض وبعضه تشفّ من سلفه، بل بعضه بداية رحلة بحث عن مصالح جديدة في كنف الولاية الجديدة لاشخاص ودول وحكومات اعتادوا التصفيق، ولا يغرنكم كثرة الوفود التي تحط رحالها في العراق اليوم، والتصريحات التي تزيّن وصول رئيس وزراء جديد على انه اتفاق سياسي عراقي واسع يمثل وحدة وطنية حقيقية، فجلسة التصويت على منح الثقة للحكومة قالت عكس ذلك تماما، فحتى توافقات حكومتي العامين 2006 و2010 لم تكن موجودة في الحكومة الحالية، على الرغم من انها كانت توافقات الحد الادنى. لقد كانت مشاركة الاكراد بضغط امريكي منقطع النظير، كشفته تهديداتهم وشروطهم التي اعلنوها في لحظات التصويت، ووضعوا سقفا زمنيا لتلبية شروطهم، وبعكسه سوف ينسحبون منها، كما كانت مشاركة من يشار لهم بانهم ممثلو السنة اضعف من اي وقت مضى، كشفته الوجوه السياسية الضعيفة وهامشية المناصب الوزارية التي حصلوا عليها، بينما عادت لعبة الوزارات بالوكالة الى الواجهة مجددا في التشكيلة الحالية، حيث بقيت وزارتا الدفاع والداخلية شاغرتين بعد صراع امريكي ايراني عليهما، فالايرانيون كانت رغبتهم ان يتولى زعيم منظمة بدر منصب وزير الداخلية، والامريكان كانت رغبتهم ان يتولى وزارة الدفاع احد رجالاتهم من السنة. اما البرنامج الحكومي والوثيقة السياسية اللذان تُليا من قبل الوزير الاول بعد منحه الثقة، فمن ذا الذي سوف يضمن ما جاء فيهما، فلا وجود لضمانات حتى لو اقسم اغلظ الايمان بتنفيذهما، والتجربة السابقة مع سلفه اثبتت ان التواقيع ومواثيق الشرف وحفلات العناق كلها تذهب ادراج الرياح. ان الحكومة الجديدة حكومة أزمة وليست حكومة حل، وان الطرف الذي يحتكر منصب رئيس الوزراء مازال مصرا على الاستناد في قوته الى الميليشيات. ففي خطاب حيدر العبادي لنيل الثقة يتبنى حصر السلاح بيد الدولة فقط، وفي الخطاب نفسه يتبنى تطوير ما يسمى الحشد الشعبي، الذي في حقيقته هو حشد من طائفة واحدة بقيادة ميليشيات معروفة باسمائها وراياتها، فهل يستقيم ذلك مع التطلع لتصفير المشاكل كما يدعون؟ اننا نرى ان كل شيء في العراق بات في حالة يصعب اصلاحها او تشذيبها او تعديلها، وان تبديل الوجوه السياسية ليست حلا كما يعتقد البعض بل التغيير الجذري هو الحل السليم. وكي تكتمل الصورة من جميع جوانبها يحق لنا ان نسأل، هل من الصحيح والمنطقي ان يكون شخص ما رئيسا لوزراء دولة بينما هو مواطن دولة اخرى ويحمل جنسيتها؟ وهل حصل هذا الشيء في اي تجربة سياسية اخرى غير العراق؟