الرشوة مرض خبيث دخل جسد الإدارة المغربية مع بداية نشأتها في العصر الحديث، وأخذ يدب في أوصال كل المؤسسات على حين غفلة من أهلها، حتى أصبحت الرشوة واقعا يوميا يعيش مع المواطن، بل أصبح هذا الداء ركنا مهما من أسس الكثير من تعاملاته، وشيئا فشيئا تجذر هذا الوباء الخبيث حتى أصبح أصلا مسلما به أو على الأقل أمرا جاريا به العمل، بعيدا عن الاستنكار والاستقباح. السادس من يناير من كل سنة يصادف اليوم الوطني لمحاربة الرشوة ..وهو فرصة لتسليط الضوء على هذه الظاهرة الخبيثة وتفقدها، وجس نبض تحرك شبكات المرتزقة ووسطاء السوء من جهة، وجميع الفعاليات التي تروم القضاء على هذه الظاهرة من جهة أخرى. الرشوة الصغيرة والرشوة الكبيرة قديما اشتبهت الرشوة عند البعض حتى أسماها هدية، والآن تشكلت وتعددت أسماؤها، ففي كل ميدان اتخذت لها اسما فعرفت بالقهوة، وبالقهيوة و باللعاقة، أو بالحلاوة أو بتعابير إيحائية مختلفة من مثل "دهن السير يسير"، إلى غير ذلك من الأسماء الظاهرة والباطنة، وهي رشوة تصغر وتكبر حسب الآخذ والمعطي والمصلحة المرجوة. يقول الأستاذ عبد الوهاب زروال، رئيس الجمعية المغربية لحماية المستهلك جهة مراكش تانسيفت الحوز في تصريح أدلى به ل>التجديد<: >يجب أن نميِّز بين "الرشوة الكبيرة" التي يقوم بها كبار الموظفين، و"الرشوة الصغيرة" التي تشمل صغار الموظفين. فالرشوة الصغيرة تتعلَّق غالبا بإتمام إجراءات روتينية على وجه السرعة أو عدم إجرائها أصلا، أو التغاضي عن المخالفات أو عن خرق القانون<، ولكن الرشوة الكبيرة تتعلَّق بالتأثير على اتخاذ القرارات، مثل قرارات إنشاء المشروعات الاقتصادية وترسية المناقصات، وليس معنى ذلك أن نركِّز على الرشوة الكبيرة، ونتسامح مع الرشوة الصغيرة ؛ وذلك لأن كليهما ضارّ بالاقتصاد، حيث تؤدِّي الرشوة الصغيرة إلى إلحاق ضرر بالغ بجودة الحياة للمستهلك للخدمة أو السلعة، وخاصة الأفراد العاديين، أما الرشوة الكبيرة، فمن الممكن أن تضر أو تدمِّر الدولة بكاملها اقتصاديًا، كما أنه في حالة انتشارها لا يكون هناك أمل في القضاء على الرشوة الصغيرة. وقد عرف المغرب حملة إعلامية رسمية واسعة لمحاربة الرشوة، لكن هذه الحملات لم تؤت أكلها، لأنها فاقدة لكل مقومات النجاح، فمستوى الرشوة لم يتقلص، وبتنا نجدها تغزو الطرقات والمستشفيات والمؤسسات العمومية والخاصة، سألنا أحد المختصين في هذا الميدان، وهو الكاتب العام للجمعية المغربية لمحاربة الرشوة "تراسبرانسي المغرب" " transparency Maroc "،السيد بشير رشدي، فأجاب : >لا يمكن أن نتكلم عن تقدم مستوى الرشوة أو تأخرها، لأنها ظاهرة من النوع الذي لا يمكن الحصول على أرقام مباشرة بشأنها، بل هي ظاهرة يمكن قياسها ببعض الارتسامات والمؤشرات، ومع ذلك يمكن القول إنه ليس هناك تحسن في موضوع الرشوة، بحيث إذا لم تكن هذه الظاهرة قد تقدمت، فيمكن القول أنها على الأقل بقيت في نفس المستوى. عواقب وخيمة في الدين والدنيا. لاشك أن الرشوة مفسدة ووصمة عار في جبين كل من يتعامل بها، وهي مفسد وعقبة تشل كل محاولة لإقلاع اقتصادنا، وهي مفسدة تضر بالدين وتوجب اللعنة على متعاطيها، وهي مفسدة تضر بالأخلاق والقيم وتضر بمبدأ تكافؤ الفرص، تؤسس للظلم وتخنق الفضيلة والنزاهة، تفقد الإدارة مصداقيتها وأهليتها، بل تضر بسمعة البلد وتجعله غير مؤهل لاستقبال الاستثمارات الأجنبية، بل تفقده حتى ثقة المستثمرين المحليين، مما يفوت عليه فرصا عديدة لخلق مناصب شغل وإنعاش الاقتصاد. يقول الدكتور عبد الرحمن العمراني، أستاذ الفقه بجامعة القاضي عياض بمراكش:"الرشوة ظاهرة مرضية تنخر المجتمعات، وهي تتحدد في دفع مال ليحل مالا يحل أو لدفع حق لازم. وإنا نجد اليوم حملات إعلامية تنظم من أجل التوعية بمخاطرها، لكنها على الرغم من أهميتها تبقى محصورة في زمان محدد. ويظهر لي من بين الوسائل في طريقة معالجة هذه الظاهرة المشينة التوعية، ليس بخطورتها وآثارها السلبية، ولكن التوعية بحكمها في شرع الله وبمدلول معنى الحرام، وكذا مدلول اللعنة التي تصيب ممارسها وأعوانه..فالناس حين يألفون ممارسة الحرام، وتغيب عنهم عقوبته، ولايتم تذكيرهم بها، فإنهم يتجرؤون عليه، إن الحرام يمنع من إجابة دعاء العبد لربه، ويبطل قوته ويضعفها كما في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :"أيها الناس، إن الله طيب لا يقبل إلا طيبا، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال : >يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا، إني بما تعملون عليم"، وقال يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم"، ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعت أغبر يمد يده إلى السماء: يا رب ومطعمه حرام ومشربه حرام وملبسه حرام وغذي بالحرام، فأنى يستجاب لذلك؟"، ولا شك أن للتوعية بمخاطر ممارسة الحرام على النفس والأهل والولد والممتلكات أثرا إذا استمر في اجتنابه . آثار مدمرة..على الاقتصاد الوطني ومن الناحية الاقتصادية يضيف الأستاذ عبد الوهاب زروال أن أهم الآثار الاقتصادية المترتبة على الرشوة هي الزيادة المباشرة في التكاليف، لأن مبلغ الرشوة المدفوعة مثلا مقابل الحصول على تسهيل معين، مثل الحصول على إذن باستيراد سلع معينة من الخارج أو الحصول على مناقصة، لن يتحملها المستورد أو رجل الأعمال في النهاية، ولكن في الغالب يتم نقل عبئها إلى طرف ثالث قد يكون المستهلك أو الاقتصاد الوطني ككل أو كليهما معًا، حيث يقوم الراشي أو دافع العمولة بكل بساطة برفع سعر السلعة التي استوردها من الخارج أو رفع تكلفة المناقصة أو الغش في الأشغال؛ ليعوِّض ما دفعه من رشوة، وذلك يعني أن المستهلك الذي يشتري هذه السلعة أو يستهلك الخدمة، هو الذي يتحمل عبء الرشوة، وقد تتحملها ميزانية الدولة، إذا كانت الحكومة هي المستفيدة وهذا يعني أن الاقتصاد الوطني ككل هو الذي يتحمَّل عبء هذه الرشوة. والأمر الخطير في الرشوة أنها تغير المعايير التي تحكم إبرام العقود، حيث أن التكلفة والجودة وموعد التسليم وغيرها من المعايير المشروعة هي التي تحكم إبرام العقود في الظروف العادية، ولكن في ظل الرشوة، يصبح المكسب الشخصي لكبار المرتشين عاملاً هامًا في إبرام العقود، ويقلل من أهمية المعايير الأخرى، وهذا يؤدي إلى اختيار موردين أو مقاولين أقل كفاءة وشراء أو إنتاج سلع أقل جودة، وكذلك تؤدي الرشوة إلى اتخاذ قرارات بإنشاء مشاريع أو شراء سلع أو معدات غير ضرورية، وتأجيل مشاريع أخرى ذات أهمية وطنية كبرى. وهذا يعني أن الرشوة تؤدِّي إلى تشويه القرارات الاقتصادية، وتجعل هناك عدم موضوعية في الإنفاق العام وتضر بالقوة الشرائية للمستهلك العادي وتساعد على تغذية العادات السيئة والمشينة في المعاملات التجارية؛ ولذلك تعتبر الرشوة أحد أهم العقبات أمام النشاط الاقتصادي، وتؤثِّر سلبًا على نموه. لجنة وطنية لمحاربة الرشوة ..تموت في المهد .. شكلت اللجنة الوطنية لمحاربة الرشوة في إطار شراكة ضمت شبكة من الجمعيات الوطنية، سواء حقوقية أو نسائية أو شبابية أو مؤسسات مهنية ومثلين عن المفتشين العامين للوزارات، لكن هذه اللجنة توقفت لأسباب تعدد الآراء ولتضارب المصالح ووجود جيوب المقاومة، ويضيف الكاتب العام للجمعية المغربية لمحاربة الرشوة، السيد بشير رشدي في هذا الصدد : "كانت هذه اللجنة في البداية إطارا جديا لإرساء النظام الوطني لمحاربة الرشوة، وبرهنت على إمكانية خلق نقاش بين جميع المكونات، ولو مع وجود خلاف في وجهات النظر، وتمكنت اللجنة في البداية إلى حد ما من وضع برنامج على المدى القصير مع أهداف مضبوطة، لكن هذه التجربة لم يتمكن المغرب من استثمارها والاستمرار فيها، لأنه لم تكن جرأة سياسية كافية لمدافعة جيوب مقاومة التغيير، التي لها مصالح شخصية وأعضاؤها لا يسمحون أن تكون هذه المصالح موضوع استفهام. الحل..مؤسسات رقابة يقول الكاتب العام للجمعية المغربية لمحاربة الرشوة السيد بشير رشدي : "إن للفساد منطقا لحد ما معقول عند ذويه، وتعود مظاهره إلى أسباب مباشرة وأخرى غير مباشرة، ومن بينها تدني مستوى الأجور، وانعدام ثقافة النزاهة، وأي مسؤول ولو كان رفيع المستوى، وفي غياب نوع من الشفافية والوضوح، له من الثقل والصلاحية في اتخاذ القرار ما يمكنه من تسيير المال العام حسب الإغراءات المتاحة له، وفي غياب هذه الشفافية، لن يجد من يحاسبه على استغلال منصبه، وسوف يرضخ ويتماشى مع إغراءات استغلال النفوذ إذا لم توجد مؤسسات رقابة تتابع السير العام للمسؤولية العمومية.. وبالموازاة مع ذلك يجب التمكين لميكانيزمات هذه الرقابة، لكي تكون للحلول المقدمة نجاعة ونتيجة مرضية، كما يجب أن نعرف مدى التقدم في استعداد باقي المكونات من المجتمع للانخراط في برنامج فعلي لإرساء قواعد نظام النزاهة، ولبناء استراتيجية، لا أقول موحدة، ولكن بحد أدنى من التوافقات، ويجب أن تكون الإجراءات المتخذة مطبقة ومدعمة من طرف الجميع، وهذا هو الذي سيجعل إمكانية تقليص الرشوة متاحة، وتضمن للمغرب التطور الفعلي. ومن جهته أفاد الدكتور عبد الرحمن العمراني في هذا الباب قائلا : "إن المواطنين، ومتى وجدوا جدية في معالجة الظاهرة بالاستجابة لشكواهم إذا مورس عليهم ضغط لدفعها، فإنهم سيكونون عاملا في القضاء على الرشوة، لذا فهذا يحتاج لتظافر مكونات المجتمع، من غير أن ننسى وضعية العاملين المادية التي هي جزء من إجراءات المعالجة. وتنمية الوازع الديني.. إلى جانب هذه لا يجب أن ننسى عاملا مهما في تقليص ظاهرة الرشوة ، ألا وهو تربية المواطن على الخوف من الله والرفع من مستوى الوازع الديني لديه. يضيف الدكتور العمراني : "إن التوعية بمدلول اللعن في الحديث : "لعن الله الراشي والمرتشي والرائش، فالراشي هو الذي يدفع الرشوة، والمرتشي هو الذي يقبضها والرائش هو الواسطة بينهما، فالمراد باللعنة الطرد من رحمة الله، ومن طرد من رحمة الله، حل عليه غضبه ، ومن حل عليه غضبه كانت النار أولى به، نعم لابد من بيان هذا المصير والاستمرار في ذلك، هذه هي الوسيلة الأولى في طريق المعالجة، وهي مهمة كافة الجبهة الدينية بالبلاد، الرسمية منها وغير الرسمية في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتأتي بعدها الخطوة الثانية الموازية لها من خلال الإعلام بمختلف وسائله ومن خلال البرامج التربوية، وذلك طيلة السنة ويتلازم مع هاتين الوسيلتين فرض قوانين زجرية عند ثبوت حالة الارتشاء، ليعم الراشي والمرتشي والرائش، لا ينفلت منها أحد. وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتدخل بحزم شديد لتقويم الاعوجاج في الفهم إذا ثبت اشتباه الأمر على أحد من الصحابة، كما في حديث أبي حميد الساعد المتفق عليه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث رجلا من الأرض يقال له ابن اللتبية على الصدقة، فقال هذا لكم وهذا أهدي إلي، فقام النبي صلى الله عليه وسلم فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : ما بال العامل نبعثه فيجيء فيقول هذا لكم وهذا أهدي إلي، ألا جلس في بيت أبيه فينظر أيهدى إليه أم لا، والذي نفس محمد بيده، لانبعث أحدا منكم فيأخذ شيئا إلا جاء يوم القيامة يحله على رقبته إن كان بعيرا له رغاء أو بقرة لها خوار أو شاة تعير، فرفع يديه حتى رأيت عفرة إبطيه، فقال اللهم هل بلغت ثلاثا. وبعد.. هذا نداء لكل مواطن شريف أن يحصن مواقعه، فالأمر يتعلق بنزال حقيقي بين إرادة الخير التي تضم دعاة التغيير ودعاة إصلاح المجتمع، ودعاة تطهير الإدارة وتحديثها وجعلها أداة أساسا للتنمية، وبين إرادة الشر التي تضم بعض المرتزقة المنتفعين ببقاء الرشوة وديمومتها، وتضم شبكات السماسرة ووسطاء السوء، وتضم عقلية مستسلمة تعتقد أن القضاء على الرشوة أمر مستحيل، وأن الرشوة أصبحت عرفا متداولا وعاديا، وأن معركة القضاء على الرشوة معركة خاسرة لا داعي لإضاعة الوقت في محاولة اقتلاعها، وقد تجذرت وترسخت في العقليات والسلوكيات. إنها إذن معركة وطنية يجب خوضها وتحد تاريخي يجب رفعه حتى تنتصر إرادة الخير على إرادة الشر، وإرادة الإصلاح على إرادة الإفساد، وإرادة الحق على إرادة الباطل. عبد الغني بلوط