ّ عقدت الجمهورية الاتحادية الألمانية ما بين عامي 1950 و1973م معاهدات تجارية مع عدد من الدول الأوروبية وغير الأوروبية تنص على استقطاب العمال لسد النقص في اليد العاملة. وأول اتفاقية عقدتها ألمانيا كانت مع إيطاليا في عام 1955م، ثم مع اليونان وإسبانيا سنة 1960م، ثم بعد ذلك مع تركيا في عام 961 1م. وفي سنة 1963 تم توقيع معاهدة تعاون بين المملكة المغربية والجمهورية الاتحادية الألمانية. لقد كان معظم المهاجرين العمال يرون إقامتهم في البلد المضيف أمرا مؤقتا، الهدف منه تحسين الوضع الاقتصادي والمالي. إلا أنه بعد إصدار قرار إيقاف تعيين العمال في عام 1973 وتغيير بعض القوانين التي تمسهم، اضطر كثير من المهاجرين إلى استقدام عائلاتهم إلى ألمانيا. التغير النوعي في أسباب الهجرة لقد تغير وجه الهجرة إلى ألمانيا في أواخر الثمانينات ومع مطلع التسعينات، إذ نشأت فئة جديدة من المهاجرين الشباب جاءت إلى ألمانيا بهدف التحصيل العلمي. ولقد ساهمت الحروب الأهلية والتغيرات السياسية التي عرفتها الساحة الدولية في تدفق عدد كبير من اللاجئين على الجمهورية الاتحادية. أما اللإجراءات الأخيرة المتخدة من قبل السلطات الألمانية لتسهيل هجرة الكفاءات الأجنبية الماهرة إليها من خلال منح المهاجرين البطاقة الزرقاء فإنها إلى الآن وبسبب الشروط الصعبة لم تكن فعالة. وبذلك لم تحض باهتمام كبير من طرف الأجانب. أصناف المهاجرين في ألمانيا أما فيما يتعلق بالجنسيات الأجنبية القاطنة في ألمانيا فيشكل الأتراك أكبر مجموعة، إذ يقدر عددهم بمليوني شخص، وهم يمثلون بذلك أكثر من ربع الأجانب المقيمين في ألمانيا، في حين يبلغ عدد الأجانب من الدول العربية حوالي نصف مليون شخص، ومن البوسنا والهرسك تقريبا 160.000 ومن إيران 62.000 ومن أفغانستان ما يعادل 55.000 ومن الباكستان حوالي 30.000 مواطن أجنبي؛ ويقدر عدد المسلمين في ألمانيا بحوالي أربعة ملايين. الهوية ومكوناتها الأساسية يمكن تعريف مصطلح الهوية بأشكال مختلفة، ومن المؤكد أن هناك عوامل عديدة تلعب دورها في تحديد مفهوم الهوية. فالدين والجنسية والانتماء إلى مجموعة عرقية أو مجموعة تربطها لغة واحدة له تأثير على الفرد، ليس هذا فحسب بل أيضا الاتجاهات السياسية أو الطبقة الاجتماعية أو المنصب أو الارتباطات الاجتماعية والصداقات والبيئة السكنية. فكل هذه العوامل تقوم بدورها في التأثير على الهوية وبنسب متفاوتة. إلا أنه من الممكن أن تتغير هذه النسب وترتيباتها في أهميتها مع مرور الوقت وبالتالي يصعب تحديد هوية الفرد المستقبلية أو حتى التنبؤ عما إذا كانت الصفات الوراثية أو المكتسبة أو الظروف المحيطة هي المؤثر الفعلي والقوي. وطبقا لذلك فإن الهوية يمكن النظر إليها كمكون ديناميكي في تطور دائم وعلى مدى الحياة. مشكلة الانتماء الثقافي تواجه الكثير من الشباب، فالتجارب السلبية التي يتعرض لها بعض الشباب من أصل أجنبي غالبا ما تكون لها انعكاسات سلبية على تشكيل هويتهم. وبالتالي على مسار حياتهم مما يؤدي إلى عرقلة اندماجهم داخل المجتمع. الوضع المدرسي لأبناء المهاجرين تحسن في العقود الأخيرة الوضع التعليمي لأبناء المهاجرين القاطنين في ألمانيا بشكل ملموس، إلا أنه إذا ما قورن بوضع الأبناء من أصل ألماني، فلا يمكن تجاهل الفروق الواضحة بينهما. ومن المؤسف أن عدد الأبناء المهاجرين الذين يحصلون على الشهادة المدرسية التي تؤهلهم للالتحاق بإحدى الجامعات لا يتعدى 40%، بينما تبلغ النسبة في المجموع السكاني العام 65%. ويمكن أيضا ملاحظة فوارق كبيرة بين أبناء المهاجرين من جنسيات مختلفة، إذ تصل نسبة الذكور الإيرانيين في المدارس المؤهلة للالتحاق بالتعليم العالي إلى 50% مقابل 26% لدى الأتراك و25% لدى المغاربة وفقط 13% لدى اللبنانيين. وبينما يلاحظ التقارب الكبير بين الألمان والإيرانيين في تفوقهم المدرسي يتضاءل مستوى النجاح بشكل ملحوظ لدى التلاميذ الأتراك والمغاربة واللبنانيين على وجه الخصوص. أكثر من نصف التلاميذ الأتراك وأكثر من ثلثي التلاميذ اللبنانيين من الذكور يفشلون في الحصول على شهادة مدرسية تؤهلهم للدراسة بإحدى المعاهد العليا ولا يتبقى لهم بذلك إلا الالتحاق بإحدى المدارس الخاصة لمحدودي الكفاءات أو المدارس العامة لإعداد الحرفيين. -العوامل المؤثرة في التفوق المدرسي لدى أبناء المهاجرين توجد عوامل كثيرة تؤثر في التفوق المدرسي لدى أبناء المهاجرين، ومن بين الأسباب الرئيسية نجد: العامل اللغوي، والعامل الشخصي والأسري، وكذا العامل التعليمي، والمحيط الاجتماعي. أ-القدرات اللغوية: قديما كان يُرجَع السبب في النجاح أو الفشل المدرسي إلى قدرات التلميذ العقلية فقط. ولكن في يومنا هذا، أضحت القدرات اللغوية للتلميذ من بين النقط التي تتصدر مقدمة أسباب النجاح أو الفشل في الدراسة. فالمعرفة اللغوية الناقصة أو غير المتكاملة لها تأثير سلبي كبير على المستقبل المدرسي للتلميذ. وهذه المعرفة، تنطبق على الأطفال أصحاب اللغة الواحدة وكذا الأطفال المتعددي اللغات في مجتمع يضم حضارات وثقافات مختلفة ومتعددة. ب-دور تمييز الذكور على الإناث في العملية التعليمية يدور نقاش ساخن في البحث العلمي حول دور تمييز الذكور على الإناث في مجال التعليم، حيث تلعب لدى بعض الأسر العادات والتقاليد دورها في التمييز بين الإناث والذكور ومدى أهمية التعليم لهم. ومما لا شك فيه أن المستقبل التعليمي الجيد للإناث له أهميته الخاصة، غير أنه لا يحتل مركز الصدارة عند بعض العائلات الأجنبية، إذ إنها تولي الذكور اهتماماً أكبر، فيتلقى هؤلاء عادة الدعم الأمثل من أسرهم. وتشير النتائج العلمية إلى أن هذا التمييز الجنسي لا يحقق النجاح التعليمي المنشود لدى الذكور، إذ إن الإنجاز التعليمي للإناث يعادل في النهاية إنجاز الذكور. ت-قلة المعرفة بالنظام التعليمي الألماني كثيرا ما كانت الدراسات القديمة والمختصة بعلوم التربية وقضايا المواطنين الأجانب، توجه النقد بصفة خاصة للعائلات المهاجرة لعدم استيعابها للنظام التعليمي الألماني استيعابا كاملا، يعينها على تحسين الوضع الدراسي لأبنائها، ولرفضها لبعض مبادئ المجتمع الجديد، ولمعاييرها المتوارثة والمعيقة أحيانا لتطور أبنائها. ولكن هذا يتغاضى في نفس الوقت، عن أهمية الأسرة الكبيرة ودورها في احتضان الطفل. فالأسرة هي مصدر الدفء والأمان، والأطفال من ذوي الأصل الأجنبي لن يتمكنوا من التغلب على المصاعب اليومية في المجتمع الألماني بدون مساعدة أولياء أمورهم، لاسيما وأن مشاكلهم تصبح أكبر حجما إذا ما واجهوا الرفض الاجتماعي والفشل المهني. ث-الخطأ في التوجيه المدرسي والإرشاد المهني يواجه الأطفال الأجانب الذين لم يلتحقوا بالمدارس الألمانية منذ طفولتهم مشاكل وصعوبات كبيرة بسبب إمكانياتهم اللغوية المحدودة بل الضئيلة في اللغة الألمانية. إضافة إلى ذلك، لا تجد قدراتهم الثقافية ومعلوماتهم التقنية الرعاية الكافية، مما يؤدي إلى إعاقة تطورهم الوظيفي. وهذا ما تشير إليه المواد الدراسية التي يختارها أبناء المهاجرين بشكل واضح. فبينما يتجنب التلاميذ الألمان في السنوات المدرسية الأولى المواد الدراسية الصعبة مثل الرياضيات واللغات الأجنبية نجد أن التلاميذ ذوي الأصل الأجنبي يفضلون مثل هذه المواد. وكثيرا ما يلفت النظر ذلك التقييم الخاطئ لقدرات أبناء المهاجرين، مما يؤدي إلى الخطأ في توجيههم وإرشادهم المهني. وما يزيد الطين بلة هو تضاؤل نجاح أبناء المهاجرين في قطاع التكوين المهني والسبب يرجع كذلك إلى سوء الوضع عامة في هذا المجال في الوقت الراهن. ج- الوضع السكني للمهاجرين إن الدخل المحدود للعمال الأجانب هو عادة ما يدفع بالمهاجرين إلى البحث عن مساكن في أحياء قديمة ومناطق هجرها الألمان لقلة توفر وسائل الراحة العصرية فيها ولضرورة ترميمها. ومن يضطر من الألمان إلى البقاء في مثل هذه الأحياء فإما بحكم سنه الكبير أو دخله الضعيف. كما تلعب الشائعات والسمعة الموبوءة لهذه المناطق دورا مهما في مغادرة الألمان لها. وتحت هذه الظروف تتضاءل الفرص أمام الأطفال الأجانب للتعرف على أصدقاء من أصل ألماني ومن مستوى اجتماعي أفضل. إن المشاكل الاجتماعية القائمة في مثل هذه البيئات لها تأثير سيئ للغاية على تطور الأطفال. وهناك دراسات علمية عديدة تؤكد بأن الأحياء أو المناطق الحديثة التي تعيش فيها نسبة ضعيفة من المهاجرين يسهل على هؤلاء قبول معايير المجتمع الجديد والاندماج فيه بشكل أفضل. أما الإجراءات الاجتماعية المألوفة من طرف الهيئات الرسمية في مثل هذه الأحياء والتي تهدف إلى إدماج الشباب في المجتمع فلا تحقق دائما النجاح المنشود.فكل هذه العوامل السابق ذكرها تؤثر على الفرد وعلى هويته بطرق شتى. مشكلة الاندماج أ- حول مفهوم الاندماج: تتضارب الآراء عند الحديث عن الاندماج وعن المقصود بهذه اللفظة. فالتعاريف عديدة ومعايير قياس الاندماج الاجتماعي تختلف من شخص لآخر، إلا أن أغلبها تتفق على أن عملية الاندماج تشترط استعداد كل مواطن تقبل واحترام الآخر بغض النظر عن أصله أو لون بشرته أو ثقافته. فمن وجهة نظر البلد المضيف، الاندماج يعني تأمين التعايش السلمي بين الأجانب والألمان من خلال نشر ودعم ثقاقة قبول الحضارات الأخرى التي تسمح للأجانب بالاحتفاظ بهويتهم العرقية والثقافية والدينية، والتمتع بكامل الحقوق التي توفرها الدولة للمواطنين. أما من وجهة نظر المهاجرين فالاندماج يعني الاعتراف بالقيم الأساسية العامة للمجتمع المضيف، وكذا المساهمة في تطوير البلد اقتصاديا وسياسيا وثقافيا واجتماعيا. فالتزام الطرفين بالحقوق والواجبات هو الذي يولد الانصهار ويعزز بالتالي الاندماج في المجتمع الجديد. ب-الاندماج وتحدياته عند أطفال المهاجرين لقد تحسن الوضع التعليمي لأبناء المهاجرين من الجيل الثاني والثالث تحسنا واضحا مع مرور السنين، إلا أنه يجب أخذ بعين الاعتبار الفارق بين الأطفال الذين ولجوا المدارس في وطنهم الأصلي، أي قبل مجيئهم إلى ألمانيا والتحاقهم بالمدارس الابتدائية أو الإعدادية، والأطفال الذين ولدوا في ألمانيا والتحقوا بالمدارس الألمانية منذ بدايتهم التعليمية. فالأطفال الذين وطأت أقدامهم أرض الجمهورية الاتحادية في سن متأخرة غالبا ما يعانون من صعوبات في الاندماج، فقد جلبتهم أسرهم إلى ألمانيا إلا أنهم لايزالون مرتبطين نفسيا بوطنهم الأصلي. أما أبناء المهاجرين الذين ولدوا وتربوا في ألمانيا فعلاقتهم بها تختلف بشكل ملحوظ عن علاقة الأطفال الذين قدموا في سن متأخرة إلى ألمانيا. وهنا يمكن الحديث عن نمطين من أبناء المهاجرين: النمط الأول يتكون من هؤلاء الأطفال أو الشباب الذين هم على وعي بوضعيتهم الاجتماعية واللغوية. العلاقة التي تربطهم بالوطن الذي استضاف أسرهم هي علاقة وطيدة، فهم يجيدون اللغة الألمانية ولا يقلون لغويا عن أمثالهم من الأطفال الألمان، ويرون مستقبلهم في الوطن الجديد. أما النمط الثاني فيشمل الأطفال الذين يتأرجحون بين الموقفين المذكورين سابقا. فهؤلاء ليسوا بأقلية ومشاكلهم يجب النظر إليها نظرة جادة. كونهم من أصل أجنبي وأبناء عمال مهاجرين يخلق عند الكثير منهم أزمة هوية مما يجعلهم يشعرون بعدم الانتماء إلى إحدى الثقافتين انتماء شاملا. ت-اجراءات تشجيع الاندماج في ألمانيا الاتحادية وأهدافها الأساسية من بين الشروط الأساسية للحصول على مكانة مميزة في المجتمع الألماني والمشاركة في الحياة السياسية والقرارات المصيرية، التوفر على مستوى تعليمي جيد. وتلعب شهادات التأهيل المدرسية والمهنية والأكاديمية دورا رئيسيا في فرص الارتقاء الوظيفي والاجتماعي بالنسبة للمهاجرين. إن مبادرات الإصلاح التي تقوم بها الجهات الرسمية الألمانية على مستوى الجمهورية والولايات والمحافظات في المجال التعليمي تتركز على النقاط التالية: تشجيع برامج لرعاية الأطفال، وذلك من خلال التوسع في إنشاء رياض الأطفال والمؤسسات التعليمية وتحويلها إلى مدارس مفتوحة ثماني ساعات يوميا. تحسين ورفع مستوى الاختبارات التي تهدف إلى تقييم المستوى اللغوي في مرحلة مبكرة من أجل ضمان الجودة والرفع من مستوى القدرات اللغوية. ترسيخ تعلم اللغة الألمانية في الجداول التربوية لمرحلة ما قبل الابتدائي. تقديم المزيد من الدعم ودروس التقوية في اللغة الألمانية للتلاميذ الأجانب. تطوير برامج تعليمية لتشجيع التعددية اللغوية. تحسين مستوى المسؤولين المختصين بالتربية والتعليم من خلال توفير دورات تدربية لهم. إشراك الأسر في عمل المؤسسات التعليمية ورفع إنجازهم التربوي ودرجة وعيهم بمسؤليتهم من خلال توفير دورات تعليمية وثقافية لهم. التعاون مع منظمات المهاجرين، إذ يمكن لهذه الأخيرة من خلال تعاملها المباشر مع المهاجرين ربط هؤلاء بالهيكل الديمقراطي وبالقيم الأساسية للبلد المضيف، وبذلك يمكن لها مساندة عملية الاندماج بشكل فعال. إشراك المساجد في دائرة المهتمين بقضايا المهاجرين، إذ تعتبر المساجد مراكز مهمة لتشجيع ثقافة قبول الآخر وثقافة التعايش السلمي بين الشعوب والأديان، ولهدم الأراء المسبقة. فدور المساجد بات لا يقتصر على مناقشة الأمور الدينية فحسب بل أضحى يمتد إلى القضايا الاجتماعية وعلى رأسها الاندماج في المجتمع الجديد. إن قضية الاندماج وقضايا التعليم وحقوق الإنسان والمساواة بين الرجل والمرأة، كلها من القضايا المهمة والملحة التي تستوجب في يومنا هذا النقاش والمعالجة ومساهمة الجميع في إيجاد حل لها.