يعد الحذف من الظواهر اللغوية الشائعة داخل البحث النحوي بحيث يعمل في كل مستويات اللغة الإفرادية والتركيبية. و يؤطرها جميعها هدف أساسي هو التخفيف على المتكلم و المتلقي " فتارة بحرف من الكلمة كلم يكُ و لم أبلْ ،و تارة بالكلمة بأسرها ، و تارة بالجملة كلها ،و تارة بأكثر من ذلك ،و لهذا تجد الحذف كثيرا عند الاستطالة " و يرجع ذلك إلى أن المتكلم في كل اللغات الطبيعية ، ينزع نحو اقتصاد الجهد ، و ذلك بإسقاط كل العناصر المكررة أو التي يمكن فهمها من سياق القول .لهذا شملت عملية الحذف جوانب صوتية وصرفية و تركيبية ، وفق قواعد تختلف باختلاف مستوياتها . حيث يستغنى عن العناصر المتوسطة أو المتأخرة داخل التركيب طبقا لقاعدة ابن جني : " الحذف اتساع ، و الاتساع بابه آخر الكلام و أوسطه لا صدره و أواه ". وهكذا تخضع عناصر التركيب العربي للعديد من الأغراض التعبيرية ، مما يستدعي إسقاط بعضها والاكتفاء بما يؤدي المعنى المقصود . إلا أن تطبيق عملية الحذف على جمل القرآن قد خضع لمجموعة من القيود التركيبية و الدلالية . و هكذا نشهد تعرض ركنا الإسناد الاسمي إلى إسقاط أحدهما إذا دلت عليه إحدى القرائن . فيحذف المبتدأ جوازا إدا دل عليه سياق الكلام نحو قولك : صحيح ، جوابا على سؤال : كيف زيد ؟ . كما يجوز حذف الخبر إذا وجدت قرينة تحيل عليه نحو قولك : زيد ، جوابا عمن سأل : من في الدار ؟ .إذ إن إسقاط أحد ركني الجملة الابتدائية يستوجب الاستدلال عليهما بأحد الدلائل اللفظية أو المعنوية كإشارة إلى عمديتهما . لكن هذا لا ينطبق على مركب الإسناد الفعلي حيث يفتقد عنصر الفاعل إمكانية الاستغناء عنه من التركيب . و قد استثي من وجوب ذكر الفاعل العديد من المواضع حيث يمكن إسقاطه فيها مثل المصدر إذا لم يذكر معه الفاعل مظهرا نحو: ( أو إطعام في يوم ذي مسغبة )، حيث يقدر : أو إطعام أحدكم . ويحمل الحذف في النص القرآني العديد من الدلالات والمعاني التي يمكن استنتاجها. فحذف بعض الحروف من الكلمات القرآنية يمكن أن يوحي بمعاني كثيرة حسب السياق؛ لأن انكماش الكلمة يؤدي إلى انكماش الصورة، وانكماش المعنى . مثل كلام صاحب مالك الجنتين فى سورة الكهف ، حين يقول له :}إِن تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنكَ مَالاً وَوَلَداً{، فجاءت كلمة (ترن) محذوفة حرف الياء الأخيرة ؛ وذلك ليوحي بأن مالك الجنتين يستصغره ، ويراه قليل المال ، وقليل الولد . كذلك فإن الحذف يوحي بالقرب ، حيث نلاحظ أن حرف النداء( يا) ورد فى القرآن الكريم كله بدون ألف }يَقَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ {، يَرَبِّ إِنَّ هَؤُلَاء قَوْمٌ لَّا يُؤْمِنُونَ ،يَصَالِحُ قَدْ كُنتَ فِينَا مَرْجُوّاً قَبْلَ هَذَا {، وهذا يرسم صورة رائعة للقرب ، حيث يوحي حذف حرف الألف بكامل القرب ، وبأن النداء لابد أن يكون من قريب ؛ ليوحي بالألفة. ونرى الإعجاز كاملاً فى حذف حرف النداء كله من كلمة ( يرب ) ؛ لتكون فقط ( رب ) ، فتوحي بالقرب الكامل } رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ {،}رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا {. إنَّ الحذف من الأبواب اللطيفة والبديعة عند أهل اللغة العربية؛ حيث اعتبروه من المسائل التي تُكسب الكلام جمالاً وروعة، وتَمنحه جودة وبلاغة، بل إنه من الأساليب التي لا يُحسنها إلا المتمكِّنون في اللغة والبارعون في أساليبها، حتى إنَّ إمام البلاغة عبد القاهر الجرجاني قال عن هذا الباب: "هو باب دقيق المَسلك، لطيف المأخذ، عجيب الأمر، شبيه بالسِّحر؛ فإنك ترى به ترْكَ الذِّكر أفصحَ من الذِّكر، والصَّمْت عن الإفادة أزيدَ للإفادة، وتَجدك أنطْقَ ما تكون بيانًا إذا لَم تُبِن".