نعيش هذه الأيام الذكرى السنوية الأولى لرحيل المرجع الديني الإمام السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله)، وهو مرجعية متميزة بكل المقاييس؛ إذ صدر له في مجال التأليف ما يقارب (1260) كتاباً، ومن ضمنها موسوعته الفقهية التي جاءت في (160) مجلداً، وهي أكبر موسوعة فقهية ألفت في تاريخ الإسلام وبجهد فردي!! لذا لم يكن الدكتور (أسعد علي)، مبالغاً عندما وصفه بسلطان المؤلفين، في الكلمة التي ألقاها بمناسبة رحيله، وهو -أي الإمام الشيرازي- إضافة لمؤلفاته التي جعلته في مقدمة الركب، أستاذ من أساتذة الحوزة العلمية في قم بإيران، وهو راعٍ لمئات المؤسسات الإسلامية المنتشرة في مختلف أنحاء المعمورة، وقد تخرج على يديه العديد من الفقهاء والعلماء وأصحاب الفكر، الذين سارو على نهجه وأصبحوا أعلاماً يُشار إليهم بالبنان. ولعلَّ المتتبع للإصدارات المتتالية له، يلحظ عنايته الفائقة وتحسسه المستمرين للمشاكل والأزمات التي تواجه الأمة الإسلامية، فقبل أن تنتشر الصحون الفضائية في الدول العربية والإسلامية انتشار النار في الهشيم؛ بادر الإمام بكتابة كرَّاسه المتميز (الأفلام المفسدة في الأقمار الصناعية: وقايةً وعلاجاً)، وعندما وقع بعض العرب اتفاقية الصلح بينهم وبين الكيان الصهيوني الغاصب في يوم 20جمادى الأولى سنة 1415ه، بادر سماحته في نفس اليوم بكتابة كرَّاسه المعنون ب(هل سيبقى الصلح بين العرب وإسرائيل؟) وهو تبعاً لذلك راح يسطر الكتاب تلو الكتاب، والكرَّاس تلو الكرَّاس؛ ليسهم بالتالي بكتاباته المتنوعة والغزيرة للعمل على إنقاذ المسلمين من واقع البؤس والشقاء؛ وليقدَّم من خلال أطروحاته الواعية العلاج الملائم للمشاكل التي تعصف بالمجتمع الإسلامي، وقبل فترة وجيزة صدر له كتاب: (فقه العولمة.. دراسة إسلامية معاصرة)، كما صدر له مؤخراً كتاب: (اللاعنف في الإسلام)، وفي هذه الورقة عرض لبعض أفكاره بهذا الخصوص. يُعد المرجع الديني الراحل الإمام السيد محمد الحسيني الشيرازي، واحداً "من أبرز العلماء والفقهاء، الذين مارسوا نقداً لاذعاً ضد العنف"، -كما هي رؤية الباحث السعودي محمد محفوظ (مجلة النبأ، ع:63)- وقد تميز (رحمه الله) عند تأسيسه لنظريته في السلم واللاعنف أنه ذهب بها عريضة؛ لتشمل مختلف جوانب الحياة، ابتداءً من علاقة المرء بذاته، وبأفراد أسرته، ومحيطه الاجتماعي، وكذا علاقته بالدولة والنظام الحاكم فيها، وانتهاءً بعلاقته بالآخر، أياً يكن هذا الآخر. وبمعنى ثانٍ؛ فإن الإمام الشيرازي لم يُقصر تنظيره -حول فقه السلم واللاعنف- فيما يرتبط بالجانب السياسي فحسب، بل انطلق بطرحه؛ ليضفي على هذا المفهوم بعداً أوسع وأشمل. لهذا سنظل بحاجة ملحة لمثل نظريات هذا المفكر، المصلح، الرائد، الذي جَسَّد أطروحاته على أرض الواقع بعيداً عن عالم التنظير. وقد وفقني الله -قبل أشهر معدودة- لنشر دراسة بعنوان: (السلم واللاعنف في فكر الإمام الشيرازي)، ولا أخفي على القارئ بأنني تجولت في عددٍ من المصادر المتاحة لدي، باحثاً عن خيوط أنسج من خلالها رؤيته لهذه النظرية، وكنت أتساءل: لماذا لما يكتب السيد كتاباً مخصصاً حولها ويريحنا من عناء البحث؟ لذا كنت في غاية الفرح والسرور عندما سمعت بصدور هذا السفر القيم: (اللاعنف في الإسلام)، -جدير بالذكر أن للمؤلف كتيب آخر صدر بعد رحيله أيضاً، وهو (اللاعنف منهج وسلوك)- خاصة في ظل هذه الظروف الحرجة التي يُتهم فيها الإسلام بأنه دين يدعو إلى العنف، إذ ما قام -الإسلام- إلاَّ بالسيف "ولا شكّ أنّ الإسلام لم يقم بالسيف كما هرّج له الذين داسوا على ضمائرهم"، كما يرَّوج في الغرب الآن!! وهذا خلاف الحقيقة كما سيتضح من خلال عرضنا لصفحات هذا الكتاب. معنى اللاعنف: يُعرِّف الإمام الشيرازي اللاعنف كالتالي: "أن يعالج الإنسان الأشياء سواء كان بناءً أو هدماً بكل لين ورفق، حتى لا يتأذى أحد من العلاج، فهو بمثابة البلسم الذي يوضع على الجسم المتألم حتى يطيب". ولذا فالواجب على التيار الإسلامي والدولة الإسلامية اختيار اللاعنف في الوصول إلى مآربهما، وهي إقامة الدولة الإسلامية بالنسبة إلى التيار وإبقاؤها بالنسبة إلى الدولة القائمة، حتى تتسع وتطرد في بعدي الكم والكيف. إذاً "فاللاعنف -كما يقول- يحتاج إلى نفسٍ قوية جداً، تتلقى الصدمة بكل رحابةٍ، ولا تردها، وإن سنحت الفرصة. واللاعنف يتجلى في كل من اليد، واللسان، والقلب، وأحدها أسهل من الآخر... نعم.. ليس من اللاعنف أن لا يقي الإنسان جسمه من الصدمة الموجهة إليه، فهو وقاية لا عنف، والوقاية من اللاعنف"(الشيرازي. إلى حكم الإسلام، ص 50-51). فالإمام الشيرازي يرى بأن استخدام استراتيجية اللاعنف اليدوي ضرورة محتمة بالنسبة إلى من لا قوة له -وكذا من له قوة؛ فبغير هذا النهج قد لا تنجح الدعوة، وما كتب النجاح لدعوات الأنبياء والمصلحين؛ لولا استخدامهم لهذا الطريق الذي هو خيار لكل مصلح عظيم، وصاحب مبدأ رشيد، "فما تقول في نبي الإسلام محمد صلى الله عليه وآله؟ هل كان يردُّ الإيذاء -في مكة-؟ إن التاريخ يشهد بأنه كان يتجرع الاعتداءات اليدوية بكل رحابة.. فحين كان أبو لهب يحصبه بالحجارة، وأم جميل تلقي في طريقه الأشواك، وكافر آخر يفرغ على رأسه الكريم سلى الشاة وهو في الصلاة، ومشرك يبصق في وجهه الطاهر، وزائغ يلقي القذارة في طعامه، ومولى أبي جهل يشج رأسه بقوس، و.. كان يقول: (اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون). وهكذا كان نوح ولوط وإبراهيم وإسماعيل (عليهم السلام)... واللاعنف اليدوي سلاح، يجلب إلى الداعي النفوس، ويؤلب على أعدائه الناس"(نفس المصدر، ص 52-53)، ولذا يحكى عن (غاندي) محرر الهند قوله: تعلمت من الحسين (عليه السلام): كيف أكون مظلوماً فأنتصر. وما أحوجنا -نحن- لتعلم هذا الدرس؟ وسقوط ما كان يعرف بالاتحاد السوفيتي -السابق- ربما يكون خير مثال يمكننا استحضاره عند الحديث عن فشل سياسة العنف على المدى البعيد، فالاتحاد السوفيتي كان يملك زهاء ثلاثين ألف قنبلة نووية؛ إلاَّ أنه مع ذلك انهار كرمادٍ اشتدت به الريح في يوم عاصف! والإمام الشيرازي يعُدُّ الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) قائد الحركة السلمية اللاعنفية الأولى في تاريخ العالم، وقد كتب حول ذلك كتاب عن تاريخ الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم)، وعنونه -كما يذكر- "(ولأول مرة في تاريخ العالم)؛ لأنه لأول مرة في التاريخ وبعد فترة من الرسل ظهرت هذه الحركة السلمية الشاملة، والإلهية المباركة، بقيادة الرسول الأعظم محمد بن عبدالله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وذلك بهذا الشكل الذي لا يزال يتفاعل في النفوس، ويترك أثره الطيب في العالم حتى اليوم". وهذا الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) -كمثال آخر لسلوك اللاعنف- يقول في أمر الخلافة: "لقد علمتم أني أحق الناس بها من غيري. والله لأُسلِّمنَّ ما سلمت أمور المسلمين ولم يكن فيها جورٌ إلاَّ عليَّ خاصة التماساً لأجر ذلك وفضله، وزهداً فيما تنافستموه من زخرفة وزبرجة"( الإمام علي بن أبي طالب (ع). نهج البلاغة، شرح محمد عبده، ط1، بيروت: المكتبة العصرية، 1422ه، ص 95). كما أن علياً (عليه السلام) هو الذي هتف بأمرٍ من الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) -عندما فتح المسلمون مكةالمكرمة- بشعار: اليوم يوم المرحمة اليوم تحمى الحرمة.. بعد أن ردد سعد بن عبادة شعاره الجاهلي: اليوم يوم الملحمة اليوم تسبى الحرمة!.. وللقارئ أن يتأمل الفرق الكبير والشاسع بين الشعارين!! ليطمئن إلى أن السلم واللاعنف خيار استراتيجي في الإسلام. وخلاصة القول: إن الإمام الشيرازي لم ينطلق حين تأسيسه لنظريته في السلم واللاعنف من الفراغ، بل لم يشأ أن يستنسخ تجارب الآخرين من غير تعقلٍ، إنما أصَّل لأطروحته قرآنياً، ونبوياً، وعقلياً، إذ أن الأصل في الإسلام السلم واللاعنف. وفي حين اتجهت بعض فصائل الحركة الإسلامية إلى سياسة الخطف والاغتيالات وغيرها من الأعمال الممجوجة: شرعاً، وعقلاً، وعاطفةً، نرى الإمام الشيرازي يفتي في كتابه (فقه المرور)، تحت عنوان: لا لعمليات الاختطاف، بما يلي: "لا يجوز لإنسان أن يختطف طائرة أو سيارة أو قطار أو غواصة أو ما أشبه، فإنها من أعمال العنف والإرهاب وهو محرم أشد الحرمة في الشريعة الإسلامية" (الشيرازي. فقه المرور، ط1، (د.م: هيئة محمد الأمين صلى الله عليه وآله وسلم، 1421ه)، ص 281). وبصيغة أخرى يقول (رحمه الله): "يحرم الإسلام الغدر والاغتيال والإرعاب وكل ما يسمى اليوم بالعنف والإرهاب، فإنه لا عنف في الإسلام، ولا يجوز أي نوع من أعمال العنف والإرهاب الذي يوجب إيذاء الناس وإرعابهم، والغدر بهم وبحياتهم، أو يؤدي إلى تشويه سمعة الإسلام والمسلمين"( الشيرازي. الفقه: كتاب النظافة، ط1، د.م: هيئة محمد الأمين صلى الله عليه وآله وسلم، 1421ه)، ص 300). اللاعنف خيار الحركة الإسلامية: في ظل التنظير المستمر لخيار العنف والعمل المسلح، الذي تبنته بعض التنظيمات الإسلامية واتخذت منه شعاراً لها هنا وهناك.. يجد الباحث والمتتبع أن صوت الإمام الشيرازي قد ارتفع قبل عقود من الزمن؛ مدوياً وهو يدعو لأفكاره التي عمل على بثها بمختلف الوسائل والطرق، من خلال كتبه وأحاديثه وعبر لقاءاته المختلفة والمتكررة؛ فحديث اللاعنف هو الحديث الدائم للسيد الشيرازي؛ حيث يرى (رحمه الله) أن اللاعنف إحدى مقومات الدّعوة التي يدعو إليها، وهي حكومة إسلامية واحدة، سيما في ظل الظروف التي يمّر بها النظام العالمي الجديد. ويتساءل الإمام الشيرازي في فصلٍ من فصول كتابه: (الفقه: طريق النجاة)، قائلاً: ماذا سيعمل الإسلاميون عند الوصول إلى الحكم؟ ويجيب: إن الإسلام إذا وصل إلى الحكم فإن مبادئه تحتم على الحاكمين أن يطبقوا هذه البنود (...) ويعدد بعد ذلك خمسين بنداً بشكلٍ مختصرٍ وسريع، في حدود (19) صفحة من الحجم الكبير، والبند الأخير -الخمسون- منها، هو: اللاعنف في جميع مجالات الحياة(الشيرازي. الفقه: طريق النجاة، ط1، (بيروت: دار الصادق، 1419ه)، انظر الصفحات: 103-121). وفي نظرة تتنبأ بالأحداث، يرى الإمام الشيرازي بأن "العنف يولد العنف والعنيف يجد من هو أعنف منه. وعند التأمّل نجد إن ظرفنا الراهن يشبه -إلى حد ما- وضع المسلمين في المرحلة الأولى من صدر الإسلام -في مكةالمكرمة- فلو كان المسلمون قد استخدموا العنف لواجهوا مصيراً محتوماً على أيدي كفار قريش"( الشيرازي. الوصول إلى حكومة واحدة إسلامية، مصدر سابق، ص 39). أقول معلقاً هنا: وقد عايشنا ورأينا جميعاً المجازر التي قامت بها الولاياتالمتحدةالأمريكية بحق الشعب الأفغاني المسلم، وهي بعد لم تمتلك أدلة على من اتهمتهم بتفجيرات مركزي التجارة العالمية ومبنى البنتاجون.. أوليس العنف يولِّد العنف؟ وهنا وفي نفس السياق يحق لنا أن نتساءل: ما الذي سيحدث لو تبنت الحركة الإسلامية خيار اللاعنف كسلاح من أسلحة المواجهة؟ وللإجابة دعونا نعود قليلاً مع السيرة النبوية لنرى أن الرسول (ص) وباستخدامه لسلاح "اللاّعنف أصبح الكفار -إلى حد ما- مكتوفي الأيدي أمامه، وكانت النتيجة كسب المسلمين المعركة بأقل الخسائر وبأقصر الطرق. وفي مكة لم يستخدم رسول الله (ص) السلاح حتّى للرّد على اعتداءات قريش.. لكن بعد أن تغيّر واقع المسلمين وكونوا دولة ذات سيادة -في المدينةالمنورة- غيّروا هذا النهج واستخدموا السلاح [ولماذا كان هذا الاستخدام؟]لرّد الاعتداء فقط"( نفس المصدر، ص 39-40). نعم، هكذا كانت الانطلاقة الإسلامية التي بدأها رسولنا الأكرم (ص).. وهكذا ينبغي أن تستمر. ومن نافلة القول: إن الإمام الشيرازي عندما يدعو لانتهاج سياسة اللاعنف فإنه في نفس الوقت يُحذِّر من الوقوع تحت مظلة الخنوع، هذه المظلة التي عملت على تشويه فكرة اللاعنف وجعلتها قريبة من منطق الاستسلام؛ فاللاعنف استراتيجية تتخذ من موقع القوة لا الضعف كما يتصور البعض؛ فالرسول (صلى الله عليه وآله) -كمثال يحتذى به-، استخدم أسلوب اللاعنف قبل الهجرة وبعدها.. وجميعنا نردد مقولته الخالدة -عندما فتح مكة- وشعاره المذهل: (اذهبوا فأنتم الطلقاء!!). ثمار اللاعنف تحدث الإمام الشيرازي عن ثمرتين من ثمار اللاعنف، الأولى منهما: هي حصر العنف في دائرة ضيقة من الناحية الكميّة والكيفيّة. والثانية: هي التفاف الناس حول من يتأنى في موقفه ويلتزم بسياسة اللاعنف، حيث ورد في (الحليم) إنّ الناس أنصاره على الجاهل. وكما أن لسياسة اللاعنف ثمارها؛ فإن العنف ثمرته العنف، -وكما يشير- فالتجمع الذي يؤمن بالعنف يتربى كل أفراده على العنف حيث أنّ من سيئات العنف أنّه لن يقتصر على الأعداء فقط بل يتعداهم إلى الأصدقاء أيضاً.. وفي التجربة العملية لاحظنا هذه الظاهرة على الحركات الإسلامية وغير الإسلامية، وتكون حصيلة كلّ ذلك انهيار الحركة من الداخل وهجوم الأعداء من الخارج.(نفس المصدر، ص 40). "وفي الختام يبقى القول بأنّ البشر اليوم هم نفس البشر، وزماننا الراهن هو نفس الزمان بالنسبة إلى ضرورة تطبيق القوانين الإسلامية، فإذا أردنا إنهاض المسلمين وهداية غيرهم احتجنا إلى نفس منهج اللاعنف الذي ورد في بعض الروايات نصّاً، تارةً وأخرى بلفظ السلم والرفق واللين ونحوها في جملة من الروايات الأُخر، ناهيك عن ذكره في الآيات القرآنية الكريمة". حسن آل حمادة كاتب سعودي [email protected]