في الفصل الثاني من هذا الكتاب، سنلتقي مع فكر علال الفاسي وآرائه، من خلال التعريف بأهم مؤلفاته وعرض مضامينها. وأما في هذا المبحث فإني أركز على استخلاص أهم معالم فكره، وأهم الآراء والاجتهادات المتميزة عنده، سواء وردت في موضع واحد من كتبه، أو وردت متفرقة في عدة مواضع من كتبه وبحوثه ومحاضراته. والقضايا المختارة هي: قضية العلماء ورسالتُهم. وعلال الفاسي ومقاصد الشريعة. وقصدُ الشريعة منعَ الحرب وتحقيقَ سلام عالمي. ورأيه في تعدد الزوجات. والمرأة وتولي المناصب العامة. ومقاصد الشريعة الاستعمارية. ورأيه في تطبيق الحدود. والترشح للمناصب بين المنع والإباحة. 1 قضية العلماء ورسالتهم الصفة المحركة لعلال في كتاباته ونضالاته وسائر تحركاته ومواقفه، هي صفة «العالِم»؛ فحتى صفة «الزعيم» التي اشتهر بها، إنما هي في حقه فرع وجزء من مسؤولياته كعالم مسلم. فعلال الفاسي إنما هو أولا وقبل كل شيء ابن القرويين - الجامعة الإسلامية العريقة - وعالم من علمائها الكبار. فبين أيدي شيوخها، تشكلت شخصيته وتبلورت تطلعاته العلمية والجهادية. وقد كان والده ومربيه نفسُه أحدَ شيوخ القرويين. ومع ثلة من زملائه الشباب، من أبناء القرويين، أسس «لجنة علماء الشباب السلفيين، للقيام بخدمات جليلة في دائرة الإصلاح الديني... وخدمة المجتمع المغربي من الوجهة الخلقية والدينية ولما حط عصا الترحال السياسي الإجباري منه والاضطراري عاد إلى أصله وعمله العلمي، أستاذا بجامعته القرويين، وبالجامعة المغربية الحديثة، جامعة محمد الخامس، وأيضا في دار الحديث الحسنية. وكان علال يطمح إلى أن يرى في المغرب «علماء مجتهدين مجاهدين»، يواصلون حمل رسالة أسلافهم وقيادةَ أمتهم بأمانة وشجاعة. وهذا ما بثه بحرقة وحماس في عدد كتبه ومحاضراته ومقالاته. وقد أيد رأي ابن خلدون الذي يرى أن إقصاء الحكام للعلماء وإخراجَهم من مجالسهم الشورية ومن أهل الحل والعقد، أمر سائغ وطبيعي، باعتبار أنهم لم تبق لهم القيادة السياسية في المجتمع، ولم تعد لهم «عصبية» تجعلهم من أهل الحل والعقد. قال علال: «وقد بين ابن خلدون أن المقصود بالحل والعقد أهلُ القدرة عليه، فمن لا قدرة له عليه فلا حل له ولا عقد لديه، وبذلك برر فيلسوفُ الإسلام إخراجَ الملوكِ العلماءَ من أهل الشورى، لأنهم لم تعد لهم عصبية. وكل ما يمكنهم أخذه هو الأحكام الشرعية عنهم، أو تلقي الفتاوى منهم. قال ابن خلدون: وربما يظن بعض الناس أن الحق فيما وراء ذلك، وأن فعل الملوك فيما فعلوه من إخراج الفقهاء والقضاة من الشورى مرجوح، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (العلماء ورثة الأنبياء). فاعلم أن ذلك ليس كما ظنه. وحكم الملك والسلطان إنما يجري على ما تقتضيه طبيعة العمران، وإلا كان بعيداً عن السياسة. فطبيعة العمران في هؤلاء لا تقضي لهم شيئاً من ذلك، لأن الشورى والحل والعقد لا تكون إلا لصاحب عصبية يقتدر بها على حَلِّ أو عقدٍ أو فعل أو ترك. وأما من لا عصبية له ولا يملك من أمر نفسه شيئاً، ولا من حمايتها، وإنما هو عيال على غيره، فأي مدخل له في الشورى أو أي معنى يدعو إلى اعتباره فيها؟! اللهم إلا شوراه فيما يعلمه من الأحكام الشرعية، فموجودة في الاستفتاء خاصة. وأما شوراه في السياسة فهو بعيد عنها لفقدانه العصبية والقيامَ على معرفة أحوالها وأحكامها. وإنما إكرامهم من تبرعات الملوك والأمراء الشاهدة لهم بجميل الاعتقاد في الدين وتعظيم من ينتسب إليه بأي جهة ثم نعى (أي ابنُ خلدون) على العلماء عدم اتصافهم بما يحملونه من الأحكام الشرعية، حتى سُلبوا بذلك صفة الوراثة الحقيقية. لهذا كان علال دائم الاهتمام بقضية العلماء والعمل على استنهاضهم وإعادتهم إلى المكانة والرسالة المنوطة بهم. وقد ألقى في هذا الموضوع عددا من المحاضرات، منها محاضرتان في نفس الموضوع، لكن مع اختلاف كبير في الزمن. المحاضرتان هما: 1 مهمة علماء الإسلام، ألقاها سنة 1959، بدعوة من وزارة التربية الوطنية. 2 دور علماء الإسلام في المجتمع، ألقاها سنة 1973، بدعوة من جمعية خريجي دار الحديث الحسنية. وهذه مقتطفات من المحاضرتين: «إذا كان الأنبياء قد بلَّغوا الدين وحملوا الرسالة فمهمة العلماء هي حفظ ذلك الميراث وتبليغه بكل أمانة، والنضال في سبيله بمختلف الوسائل، وابتكار هذه الوسائل نفسها. وذلك ما يقول فيه الرسول صلى الله عليه وسلم: (يحمل هذا الدين من كل خلف عُدولُه، ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين). فالمهمة إذن محددة كامل التحديد في هذا الحديث الشريف وهي تنحصر في نقط ثلاث: 1 إزالة كل انحراف عن الدين مصدره الغلو في العقيدة أو المشادة في الدين. 2 دفع انتحالات المبطلين الذين يدخلون في الدين ما ليس منه، وتتسرب إلى أفكارهم من حيث لا يشعرون، مبادئ باطلة لا تتفق وطبيعة التوحيد. تقويم تأويلات الجاهلين بالدين لا يبالون بالانحلال الذي يصيب عقائدهم متى تدرعوا بما يرضي غرائزهم. «وتحقيقًا للوعد النبوي فقد برز في العصر الأخير علماء مسلمون في كل أنحاء العالم الإسلامي يبحثون عن الأساليب التي جعلت المسلمين ينحطون بينما يتقدم غيرهم من تلامذتهم. وكان من أبرز هؤلاء العلماء الشيخ محمد عبده الذي جعله تجواله في مختلف أنحاء الخلافة العثمانية يعتقد في أن تأخر المسلمين ناشئ عن أمرين لا ثالث لهما: ● الأول: قبول الإضافات التي أدخلها المندسون في الإسلام والمشعوذون عليه مع التقليد لكل ما نقل عن السابقين من العلماء أو غيرهم ونبذ الاجتهاد الديني نبذًا ظهريًا. ● الثاني: استبداد الخلفاء والرؤساء المسلمين ومقاومتهم كل حرية فكرية مع تملق العلماء المسلمين لهم، وتزيينهم لهم ما يعملون بالسكوت أحيانًا وبتحريف الأحكام وتأويل التشريع تأويلًا متفقًا مع الرغبات السياسية وشهوات أولئك الولاة. (يتبع)