1. الرئيسية 2. المغرب الراشدي خارج هيئة النزاهة.. القصّة الكاملة للرجل الذي أغضب حكومة أخنوش.. واتهمها بارتفاع مستوى الفساد الصحيفة - خولة اجعيفري الأثنين 24 مارس 2025 - 16:01 لم تكن مغادرة محمد البشير الراشدي لمنصب رئاسة الهيئة الوطنية للنزاهة والوقاية من الرشوة ومحاربتها حدثاً مفاجئاً لدى الأوساط السياسية والمتابعين للشأن العام المغربي، بل كانت بمثابة نقطة نهاية متوقعة لمرحلة امتدت لأكثر من ست سنوات اتسمت بالتوتر الدائم والمواجهات العلنية المتكررة مع الحكومة، خاصة في ظل قيادة رجل الأعمال عزيز أخنوش للحكومة منذ أواخر سنة 2021. وهذه المغادرة التي أعقبت قرار الملك محمد السادس تعيين محمد بنعليلو وسيط المملكة السابق خلفاً له، صبيحة اليوم الاثنين الماضي، وفق ما جاء في بلاغ الديوان الملكي، تطرح أسئلة عديدة حول علاقة السلطة التنفيذية بالمؤسسات الرقابية ومدى استقلاليتها في مواجهة الفساد، كما تشكّل مناسبة لإعادة فتح ملف هذه الهيئة الدستورية الحساسة ومسار عملها الشائك مع الحكومة. وبالعودة إلى بداية مسار الراشدي في الهيئة، لابد من استحضار أنه واجه منذ الأيام الأولى تحديات كبيرة، لكنه تمكن من تحويل المؤسسة الدستورية من مجرد مؤسسة شكلية إلى هيئة رقابية فاعلة، لا تتردد في الكشف عن مكامن الخلل والفساد في المغرب، وهو المسار الجريء الذي اصطدم بشكل واضح مع المصالح الحكومية، خصوصاً مع وصول أخنوش إلى رئاسة الحكومة وتفشي مظاهر الفساد وتضارب المصالح وفق ما أظهرته وأكدته تقارير رسمية وغير رسمية في المغرب وخارجه. وبعودة "الصحيفة" لتفاصيل العلاقة لابد من استحضار عام 2023، فمباشرة مع دخول القانون 46.19 حيز التنفيذ بشكل كامل، بدأت الهيئة بتكثيف نشاطها الرقابي مما أثار امتعاض الحكومة بشكل متزايد، ولعل ما أغضبها أكثر وشكّل نقطة التحول الكبرى في العلاقة التكاملية المفترضة بين السلطة التنفيذية والمؤسسة الدستورية هو تقرير الهيئة حول الوضعية العامة للفساد في المغرب لسنة 2023، والذي صدر في العام الماضي. التقرير المذكور، كان لحظة حاسمة في تفجير الخلاف مع حكومة عزيز أخنوش، إذ أعد بعناية فائقة، وكشف عن تراجع حاد في مؤشر مدركات الفساد، إذ حصل المغرب على 38 نقطة فقط من أصل 100 نقطة، مسجلاً بذلك تراجعاً بخمس نقاط خلال خمس سنوات فقط، ما تسبب في سقوط ترتيب المغرب من المرتبة 73 سنة 2018 إلى المرتبة 97 سنة 2023 ضمن 180 دولة. أكثر من ذلك، ألقى التقرير الضوء على مؤشرات مقلقة أخرى، منها تدهور واضح في مستويات الفساد السياسي، وتراجع استقلالية القضاء وحرية الصحافة، إضافة إلى رداءة الخدمات الحكومية الرقمية، وكانت هذه النتائج الصادمة بمثابة ضربة موجعة لحكومة أخنوش التي سارعت عبر ناطقها الرسمي مصطفى بايتاس إلى وصف التقرير ب"المزايدة السياسية"، معتبرة أنه لا يعكس الجهود الحقيقية التي تقوم بها السلطة التنفيذية في مكافحة الفساد. وتؤكد مصادر في الهيئة ل "الصحيفة"، أن الراشدي لم يكن مدفوعاً أبدا برغبة في المواجهة السياسية، بل كانت لديه رؤية واضحة حول ضرورة استقلالية الهيئة وعدم الرضوخ للضغوط السياسية، مع تفعيل كل اليات اشتغالها، ويظهر ذلك بوضوح في تصريحاته المتكررة التي حاول من خلالها تخفيف حدة التوتر، مؤكداً أن انتقاداته لا تعني التقليل من جهود الحكومة السابقة أو الحالية، ومثمناً قيام الحكومة بإحالة مسودات قوانين مهمة على الهيئة، مثل قانون تضارب المصالح والتصريح بالممتلكات وحماية المبلغين عن الفساد. بالمقابل، الحكومة ظلت على مسافة بعيدة من تجاوب حقيقي مع الهيئة، بل رفضت بشكل واضح دعوات الراشدي المتكررة إلى تفعيل اللجنة الوطنية لمكافحة الفساد، والتي توقفت اجتماعاتها بشكل كامل منذ سنة 2019، رغم مراسلات رسمية متعددة من الراشدي إلى رئيس الحكومة عزيز أخنوش بهذا الخصوص، وهذا الإهمال اعتبره محللون بمثابة تعطيل متعمد لعمل إحدى أهم الآليات الوطنية في مكافحة الفساد، مما أثار شكوكاً كبيرة حول نوايا الحكومة الفعلية في هذا المجال. وذروة التصعيد ظهرت في مشروع قانون المالية لسنة 2025، حين أقدمت الحكومة على خفض ميزانية الهيئة بشكل ملحوظ، في خطوة فسّرها كثير من المراقبين كرسالة واضحة وصريحة، تعبر عن انزعاج الحكومة من المواقف النقدية للراشدي وخطابه الجريء، وتُشير إلى رغبتها في تحجيم دور الهيئة وإضعاف قدراتها الرقابية. وبذلك، انتقلت قيمة الميزانية المُخصصّة للهيئة الوطنية للنزاهة والوقاية من الرشوة ومحاربتها، من 269.386 مليون درهم خلال السنة المالية 2024، إلى 210,178 مليون درهم برسم مشروع ميزانية 2025، وسط استغراب واستنفار عدد من النواب البرلمانيين في المعارضة، ممّن أعلنوا استنكارهم لما وصفوه ب "الاستهداف" الممنهج للهيئة وأعضائها، بمن فيهم عبد الله بوانو القيادي في حزب العدالة والتنمية، الذي لم يتوقف عند حدود الإشادة المشوبة بالاستفهام، بل صعّد من لهجته، معتبرا أن هذا الخفض المريب هو محاولة متعمّدة لكبح جماح هيئةٍ لا تُجامل أحدًا ولا تخضع لإملاءات، إذ لطالما فضحت بجرأة مسار الفساد في البلاد وكشفت عن تعثر الإصلاحات، مؤكدا أن هذه المناورة المالية ليست سوى عرقلة مقصودة لجهود الهيئة في أداء رسالتها، مما يضرب في الصميم مساعي تعزيز الشفافية وإرساء العدالة الاقتصادية التي لطالما تشدّقت بها الحكومة في خطاباتها. واختار عبد الله بوانو حينها، أن "يقطر الشمع" على الوزراء دون ذكر الأسماء، لكن المستهدف كان واضحًا: مصطفى بايتاس، الوزير المنتدب المكلف بالعلاقات مع البرلمان والناطق الرسمي باسم الحكومة، وعبد اللطيف وهبي، وزير العدل، اللذان سبق لهما، أن وجها انتقادات صريحة لتقارير الهيئة الوطنية للنزاهة، حيث اعتبر أن ما تعرّضت له الهيئة من تشكيك هو "استهداف بشع وغير لائق" من قبل الحكومة وأعضائها، ويمثل تقليلاً من احترام مؤسسة دستورية ينبغي أن تكون محصّنة من مثل هذه التجاذبات. من جهة ثانية، وفي قراءة لمسار الراشدي، يتضح وفق العديد من المصادر الحقوقية والسياسية التي تواصلت معها "الصحيفة" أنه دفع ثمن استقلاليته وجديته في أداء المهام الرقابية التي تفرضها الهيئة، والتي اصطدمت بشكل مباشر بمصالح حكومية معينة، خصوصاً في ظل حكومة يقودها رجل أعمال قوي كعزيز أخنوش، الذي لم يُخفِ في أكثر من مناسبة انزعاجه من الخطابات النقدية التي توجه لأداء حكومته. واليوم، ومع تولي محمد بنعليلو رئاسة الهيئة، تنقل "الصحيفة" تساؤلات ملحة حول مستقبل الهيئة الوطنية للنزاهة والوقاية من الرشوة ومحاربتها، ومدى قدرتها على مواصلة أداء دورها الرقابي بنفس القوة والاستقلالية، إذ يبقى التحدي الأكبر أمام بنعليلو وسيط المملكة السابق الذي خلفه على رأس المؤسسة سفير المملكة لدى تونس حسن طارق –يبقي التحدي هو الحفاظ على استقلالية الهيئة، التي كانت، ولا تزال، معركة مفتوحة مع السلطة التنفيذية في المغرب، أما السؤال الأهم فهو هل ستستمر الهيئة على نفس الخط النقدي الصارم، أم أن تعيين الرئيس الجديد سيفتح الباب لتسوية هادئة مع الحكومة قد تخفف من حدة التوتر، لكنها قد تضعف في الوقت ذاته قدرة الهيئة على مواجهة الفساد بفاعلية؟ والأيام المقبلة كفيلة بكشف الإجابة على هذا السؤال الكبير.