[email protected] يتفق الغزاة المستعمرون ومعظم المستشرقين على ضرورة محاربة الإسلام والتصدي لدعوته وهدم هياكله وأبنيته. وسبب التقائهم على محاربته واضح باستقراء الأحداث والعلاقات التاريخية عبر العصور الاسلامية لا يحتاج إلى تأمل كثير. فالإسلام بعقائده الحقة، ودعوته الإنسانية العامة، هو الجدار الوحيد الذي يقف دون تحقيق المطامع الاستعمارية المختلفة، وكل ذلك بفضل ما أوتي من دينامية فعالة، وما يؤسسه من حركات الدفاع عن حرمة الإسلام والمسلمين، وحماية إنسانه وترابه وممتلكاته وأعرافه وتقاليده وقيمه المجتمعة كلها في هويته. وقد أخذت محاربة الاسلام للاستعمار أشكالا متنوعة تتفق كلها على الحد من شروره وتقليص غطرسته وسد الطرق عن سبل الاستحواذ على خيرات الغير قدر المستطاع(1) فكانت مقاومة الاستعمار، سواء بالمشرق أو المغرب، من الحركات الشهيرة قبل القرن العشرين، وخلال ما تقدم من عقوده. فالحروب التحريرية المتبعة بالعالم الإسلامي عامة تعتمد مبدأ المجابهة العسكرية وسيلة لرفع الذل والظلم عن المستضعفين من أهل الإيمان. فالله عز وجل قد أذن لهم بهذا السبب، بقوله عز من قائل: {وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله}(2) وهذا ما صرح به الخطابي نفسه في مجلة آخر ساعة حين قال: “فما علينا إلا الجهاد في سبيل الله لإعلاء كلمة الله”(3). فالمسلم حين يدافع عن وطنه يدافع في نفس الوقت واللحظات عن عقيدته. فصيانة العقيدة الإسلامية عند كل مسلم تستوجب قبل كل شيء، التضحية، لأنها السبيل الوحيد للنجاة والفوز في عزو المعتدين، أما التخلف عن ذلك فسبيل لانحلال الأمة. فما شوهد آنذاك في بلادنا في نظر الخطابي من الفوضى والانحلال وعدم الاستقرار سببه الوحيد هو ضآلة المكتسب من العقيدة والإيمان لا أقل ولا أكثر. فإذا كنا عقلاء يجب علينا أن نجاهد في سبيل تثبيت العقيدة والحث على التمسك بها(4). فتلك هي العقيدة التي يجب على المسلم كما يرى الخطابي “أن يثبتها ويغرسها في نفوس أفراد الأمة”(5). فالسلاح الأول للمقاتل هو عقيدة الإيمان بالله(6). فالمقاومة التي قادها الخطابي ضد المستعمر استمدت قوتها ودفاعها من حرارة الإيمان التي كانت من رصيده الوطني. أضف إلى ذلك أن الرجل قد التف حوله المجاهدون، كل هدفهم وأساسهم إخراج النصارى من بلادهم وتحرير أرضهم من الرجس والحكم الجائر(7). ويضيف رحمه الله “كان الباعث الوحيد هو الدين، هو الإسلام، ولم تكن عندنا شهوة الحكم والانفصال”(8). ومن خلال هذه المقولة يتضح لنا جليا أن الخطابي كان فكره مشبعا بهويته الإسلامية وواعيا بواجبه الديني والوطني الذي يفرضه عليه الذود عن بيضة الدين والوطن لمواجهة المد المسيحي الصليبي الذي أعلن عن خططه كما تقدم ورغبته في محو المعتقدات الإسلامية من هذه المنطقة على مستوى الأعراف والعادات والتقاليد والقوانين والتنظيمات. ويتضح لنا أن الحروب التحريرية كان لها الدور الكبير في صيانة العقيدة الإسلامية، وذلك من خلال ثلاثة مرتكزات متمثلة في: صد الهجمات الحربية، ثم التصدي لحملات الاستغلالين البشري والاقتصادي، علاوة على عدم التهاون في ترسيخ الثبات على الإسلام، ومن ثم فلا يختلف اثنان في أن مواجهة المحتل والذود عن الوطن، من الواجبات الحتميات على كل فرد، كل على قدر استطاعته وإمكاناته. لذا صار لزاما أن يقف البدن والعقل موقف تأهب واستعداد لمنعه حتى لا يقع هذا الكيان صريعا لأن هدمه هدم لثوابته، وهدم هذه الثوابت سبيل لنسف أي أمة مهما كانت مناعتها وقوتها. هذا هو ما أكده محمد بن عبد الكريم الخطابي حين قال: “نعم.. أؤكد لك أنك إذا أردت القضاء على أكثر الأمم عددا، وأغناها مالا، وأعتاها جيشا، وأوفرها علما، فاقض على أخلاقها ودمر مثلها العليا، فتمشي تحت قدميك جثة هامدة، هذا إيماني، وهو ما يثبته التاريخ”(9). لذا تقف الحركات التحررية حصنا منيعا يتحصن به كيان الأمة، ففي كل البلاد المحتلة، لا بد وأن يكون هناك دعاة ومقاومون يكونون دوما على أهبة الاستعداد للحفاظ على المقدسات والثوابت الدينية والوطنية، وتبقى لكل أمة ثوابتها القومية والدينية والوطنية التي تكافح من أجلها. الحقيقة أن النظرة الخطابية ستتلاشى كليا في رمشة عين ويتحول الخطابي من رجل مطيع مسالم للإسبان إلى آخر عملاق مخيف شل سنة 1921 عقولهم لفترة لم يستطيعوا ذكر مجرد اسمه، بعد الارتياب في أمره سنة 1915(10). ولم يكن عملاقا من الوجهة الحربية بسبب انتصار معركة أنوال فقط بل بما ظهره من معرفته المتقدمة في محيط الثقافة الحربية أيضا. والحديث عن الثقافة الحربية والجهادية سجل جامع لجميع ما يتعلق بتنظيم كيان دولة وحكومة، وشامل لجميع أسس الحياة الوطنية وعلاقاتها بالخارج. ومنذ تلك اللحظات انهارت علاقة الخطابي باسبانيا بإعلان القطيعة النهائية معها، متنقلا بذلك إلى طور جديد، ألا وهو الدعوة إلى الجهاد الذي لا يتنافى مع مواقفه وقناعاته المتعلقة بمزايا التعاون بين الشعوب في ظل الكرامة والحرية. واذا كنا قد أدمجنا في هاتين الحالتين السياسية والحربية فلأننا رأينا ذلك نابعا من رصيد فكري سديد عن قيادة الجيوش واقتحام الميادين. هذا ما سنحاول إيجاد سبل توضيحه. الاستراتيجية الميدانية: لم تكن لتمنع الخطابي من سن استراتيجية حربية ميدانية مبنية على مجموعة من الأسس منها:- توعية المحاربين، لا يختلف سلوك الخطابي بصفته رئيس المجاهدين عن زعماء الحركات الجهادية المعروفة في تاريخنا وتاريخ الأمة الإسلامية، ذلك أن الجميع يشترك في الدعوة إلى الجهاد وتنظيم اللازم من الحركات المندرجة في حرب أنماط الغزو الأجنبي بالمرجعية الإسلامية. فالمسلم يقاتل من أجل هدف سام، وغاية عظيمة، وهي إعلاء كلمة الله فلابُد أن يكون المسلم على بيّنة في قتاله وما الهدف من هذا القتال؟ فإذا كان لإقامة شرع الله فهذا هو المقصد، أما إذا كان غير ذلك فبئس القصد وبئس النيّة، وإذا فحصنا أقوال الخطابي وتتبعنا توجيهاته وأوامره باستقراء النصوص التي بين أيدينا نصل إلى إبراز النتائج التالية: - نية الجهاد: ذلك أن الخطابي لم يكن راغبا في جمع الحشود غير الواعية من الجانب الديني والقصد من الانضمام إلى زمرة المجاهدين. ومن المعلوم أن الجهاد واجب ديني مثل العديد من الواجبات والفرائض، ومثلما تعقد النية للفرائض الخمس الواجبة على كل مسلم يستلزم الوضع الحربي أيضا عقد نية التوجه إلى حرب العدو. وهو يقول موجها خطابه للمجاهدين: “أيها المجاهدون، إعقدوا النية على الجهاد فإنما الأعمال بالنيات لا يكون عملكم إلا لوجه الله فاقصدوا على بركة الله”(11). والنية التي يدعو إليها الخطابي جمهور المجاهدين لها ارتباط وثيق بالثبات والصبر على شدائد الحرب ومصاعبه فنراه حريصا كل الحرص لتحريض المجاهدين على الصبر والثبات:”… إصبروا إن الله مع الصابرين”(12). - التضييق على الأعداء: ويمكن لنا أن نتصور الطريقة التي كان الخطابي يسلكها لحث المجاهدين على قتال العدو فلم يكن يستغن عن الدعوة إلى الانقياد لأوامر القائد الأعلى ومن دونه من قواد خوض ميادين المعارك . والخطابي بحكم معرفته بسياسة الحربية وثقافتها يعلم جيدا أن الانقياد مرحلة يتلوها مجابهة العدو بما سلف تلقينه للمحاربين من النية والصبر والثبات وهذا كله رصيد قوي ومتماسك في خطة الإجهاز على العدو وكسر صفوفه وغطرسته وأنفته. وهذا ما نجده في بعض ما التقطناه من النصوص منها قوله: “إخواننا المجاهدين وعزة الموحدين من بني توزين وجزناية ومرنيسة وبني ورياغل المخيمين بمضار…..حققوا أماني المسلمين منكم بالانقياد والتوجه للقتال لعدو الدين وملاعين الكفر ومرة الملحدين الظالمين وشددوا في التضييق عليه في كل مكان، واغنموا أصحابه وأمواله وقاتلوا أعداء الله حتى تضيق عليهم الأرض بما رحبت، فإن رحمة الله قريبة منا إن نحن أطعنا وجاهدنا”(13). - مراعاة السلوك والأخلاق الحربية: ونعتقد أن الخطابي كان حربيا حكيما ذا تجربة ودراية بما يجري في الحروب من الانفلات الأمني غير الواعي حتى بين المسلمين أنفسهم ولذلك لم يتوان عن إصدار الأوامر الصارمة ولو كان ذلك في صيغة بذل النصيحة الواجبة على رؤساء المسلمين. ولابد من إعطاء الأهمية لما تركز عليه فكره وهو يدعو إلى خوض المعارك . والنصيحة التي استرعت انتباهنا هي تنبيهه بعدم مس شيء من ممتلكات المسلمين وحرمتها. فلنستمع إلي ما يقوله بهذا الصدد موجها كلمته للمجاهدين: “إعلموا أن الله حرم عليكم أعراض وأموال الناس والفساد في الأرض، ونحن قادمون على خوض المعارك مع العدو في أرض إخوانكم المسلمين، فلا تتعرضوا لمالهم ولا لأعراضهم، ولا للعبث بأي شيء محرم عليكم، فكل شيء يجب أن يكون مصانا، ما عدا العدو في معترك القتال”(14). وخير مثال ينطبق على رعاية الخطابي لحرمات الحرب هو استنكاره ما حدث بناحية غمارة 1925(15). وإذا علمنا أن الخطابي قال: “نحن قوم نحب السلام ولكن نأبى الذل والضيم”(16) فإن حربه التحريرية ظلت قائمة ضد إسبانيا من خلال سلسلة من الانتصارات. وفي هذا يقول محمد كرد علي في كتابه: “الإسلام والحضارة العربية”: “وتمتعت إسبانيا باحتلال الريف بعد نكبات عظيمة حلت بجيشها، لو لم تساعدها فرنسا على حرب الريف ما استطاعت أبدا نزع تلك المستعمرة الصغيرة من الريفيين الذين لم يجدوا نصيرا في الغرب لأنهم عرب ومسلمون”(17). ونختم هذا العرض بقولتين تؤكدان هدف الخطابي وغايته من إقامة الجهاد ضد المحتل، دون تعليق عليهما، يقول: “هذا ولا يتبادر إلى الذهن أننا نحارب حبا في الحرب، أو رغبة في إهراق الدماء، كلا ثم كلا، وشاهده شروط الصلح المعتدلة كل الاعتدال التي عرضنا بها عليهما وأساسها الاعتراف باستقلالنا”(18). ويقول: “ومن ذا الذي قال لهم إن الحركة الوطنية حركة من أجل المال أو الإصلاح؟ ألا يدركون جميعا أننا عندما حاربنا المستعمرين أكثر من خمس سنوات كاملة، قد ضحينا بكل أموالنا القليلة واقتصادنا الضعيف ومنافعنا الشخصية، حتى نحصل على النصر النهائي فنعلي كلمة الله في الأرض ونرفع راية التحرير والوطنية في الآفاق”(19). 1 ) عبد الرحمن حبنكة الميداني، مرجع سابق، صص: 194-195 ،بتصرف. 2 ) سورة الأنفال، الأية:39. 3 ) جريدة دار أخبار اليوم، بتاريخ 24 أبريل 1957 الصادرة بالقاهرة. 4 ) مجموعة وثائق عبد السلام الغازي، هذه هي طريقة الدعوة إلى الله ، بتاريخ 25شتنبر1960. 5 ) نفسه. 6 ) مجموعة وثائق حسن البدوي، خطة جيش التحرير، بتاريخ 5مارس1949 . 7 ) عبد السلام الهراس، ذكريات من قرننا الماضي، مجلة الراية، العدد 297، ص: 20. 8 ) نفسه. 9) محمد أمزيان،مرجع سابق، ص: 309. 10) أنظر:ماريا روسا،مرجع سابق. 11 ) أحمد البوعياشي، الجزء الثاني، مرجع سابق، ص:362. 12 ) مجموعة وثائق الهشم الطود، رسالة إلى القائد اليزيد بن صالح بتاريخ 26 صفر 1343ه . 13 ) رسالة إلى مجموعة من القبائل المجاهدة من بني توزين وجزناية ومرنيسة وبني ورياغل وثيقة خاصة، بتاريخ 3 يونيو 1923. 14) احمد البوعياشي، الجزء الثاني، مرجع سابق، ص:361. 15) محمد الحبيب التجكاني، وثائق وتحقيقات عن المجاهدين برباط در ابن قريش1331ه/1913م، مطبعة تطوان، تطوان،1986، ص: 38. 16) رشدي ملحس الصالح، سيرة الأمير محمد بن عبد الكريم الخطابي بطل الريف ورئيس ، مكتبة السلفية1925، ص: 43. 17) محمد أمزيان، حرب الريف، مرجع سابق، ص: 253، نقلا عن محمد كرد علي، الإسلام والحضارات العربية، ص:325. 18) مجموعة وثائق عبد السلام الغازي، بيان من الأمير الخطابي إلى الأمة الجزائرية والتونسية بتاريخ 10غشت1925 . 19 ) مجموعة وثائق عبد السلام البدوي، نداء الأمير الخطابي إلى المجاهدين المغاربة، بتاريخ 3يناير 1959 .