من مدينة قادس (جنوب إسبانيا) إلى مدينة الناظور المغربية، التي تبعد بنحو 16 كم عن مدينة مليلية المحتلة من طرف إسبانيا، يسافر خافيير سوسبيرا، ليس بغرض السياحة وإنما للبحث عن والدته البيولوجية في المغرب. ورغم أنه مرتبط بشكل كبير بأمه التي أحسنت تربيته، ولا يرى أمّاً أخرى غيرها، فإنه دائماً يشعر بالفضول لمعرفة من أين أتى، والأهم من ذلك معرفة المرأة التي "حملتني في رحمها، وأخبرها بأن ابنها لم يمُت قبل 39 سنة"، يقول خافيير. وفي رحلة بحثه عن والدته البيولوجية في الناظور (شمال شرقي المغرب)، يطمح خافيير إلى كشف كيف كانت تعمل الشبكة التي تبيع الأطفال من الأسر الفقيرة والأمهات العزباوات إلى الأغنياء في إسبانيا. بعد 4 عقود.. بحث مُضنٍ قصة خافيير تشبه قصص 53 حالة أخرى، كشفتها قبل أيام، صحيفة إلموندو الاسبانية في تحقيق جديد حول "سرقة الأطفال في المغرب وبيعهم بإسبانيا". لم تكن المرة الأولى التي يصل فيها الشاب الإسباني إلى مليلية، وعبوره الحدود الوهمية نحو الناظور، فقد دخل خافيير لمليلية أول مرة قبل4 عقود تقريباً، وهو رضيع في حضن امرأة لم تكن أمه الحقيقية. بعد ولادته مباشرة في مارس 1971 بمستشفى الحسني في الناظور، أخبرت الممرضة أمه الحقيقية بأن ابنها توفي في غرفة الولادة. يحكي خافيير أن مستخدماً عمد إلى تزوير وثائقه، ومنحه لسيدة تدعى فاطمة، وهي إسبانية تعمد إلى شراء الأطفال حديثي الولادة وتبيعهم للإسبان، فقدمت الرضيع لوسيطة نقلته إلى مدينة مليلية. بعد حادثة السرقة، كبر خافيير رفقة عائلته الإسبانية التي دفعت آنذاك 250 ألف بسيطة (نحو 15000 درهم مغربي) مقابل شرائه: "هكذا تم شرائي.. إنني طفل مسروق"، يردف خافيير سوسبيرا، بكثير من الحزن والأسى. شبكة كبيرة بينها راهبات موضوع سرقة الأطفال المغاربة وبيعهم لأسر إسبانية، فجّره الإعلام الإسباني أول مرة في 2013 بعد تحقيق دام لسنتين، لكن فعليا تم الكشف عنه لأول مرة، عندما تم إيداع شكاية لدى المدعي العام الإسباني، في نوفمبر سنة 2011، من طرف الجمعية الوطنية الإسبانية لضحايا التبني غير القانوني. السلطات الإسبانية تحركت حينها، وشرعت في التحقيق الذي كشف عن مافيا ضالعة في الاتجار بالرضع سنوات السبعينيات، ومن بينهم 28 رضيعاً مغربياً "تم تفويتهم" بعد إدخالهم إلى المدينةالمحتلة. ووجهت السلطات الإسبانية تهم الاتجار في البشر، والاحتجاز غير القانوني وتزوير وثائق عامة لأزيد من 30 متهماً، بعضهم توفي والباقي من المسنين، بينهم راهبتان و3 عاملين بالمجال الصحي، إضافة إلى وسطاء بين المصدرين والمستوردين. غير أن صعوبات كثيرة وقفت أمام التحقيقات الإسبانية؛ لعدم تسجيل الأطفال الناتجين عن علاقة خارج إطار الزواج في السجلات الرسمية لمستشفيات الولادة، فضلاً عن وضع أمهات أخريات أبناءهن بطريقة تقليدية خارج المستشفيات. حرية التنقل تسهل السرقة الحرس المدني الإسباني صرح آنذاك، بأن عملية التهريب تتم برّاً عبر مليلية لأطفال غالباً هم أبناء المدينة، أو من مدن مجاورة، تزوَّر لهم شواهد ميلاد جديدة تثبت الأبوة البيولوجية. "فحرية التنقل التي كانت آنذاك، بين المدينةالمحتلة مليلية ومحيطها على المغرب، ساعدت كثيراً في بيع الرضع"، كما يؤكد مصدر حقوقي من المنطقة، فضل عدم الكشف عن هويته. المصدر ذاته، أوضح ل"عربي بوست"، أنه كان "يتوافد على مستشفى الصليب الأحمر بمليلية في سنوات السبعينيات، العديد من النساء من جميع أنحاء المملكة المغربية قصد الإنجاب، وأخريات من أجل وضع حملهن خارج إطار الزواج؛ هرباً من العقوبات السجنية والعار والفضيحة". كما كان "يتم سرقة هؤلاء الأطفال من مستشفى الصليب الأحمر، أو إيهام عائلتهم بوفاة المولود، أو إقناع الفقراء منهم ببيع أطفالهم بأن تتبناهم أسر ميسورة الحال في إسبانيا وأوروبا"، يشدد المصدر الحقوقي. مصدر "عربي بوست" لا يستبعد أن تكون راهبة تُوفيت السنة الماضية (2017)، كانت مكلفة آنذاك الخدمات الاجتماعية في الإدارة الإقليمية لمليلية، قد "باعت العديد من الأطفال منذ عام 1975، بما يتراوح ما بين 450000 و1200000 بسيطة (عملة إسبانيا القديمة، وقيمة المبلغ تتراوح ما بين 3000 و8000 يورو) للطفل الواحد". جبر الضرر وإنصاف الضحايا في إسبانيا تهتم المنظمات غير الحكومية بشكل كبير، بموضوع سرقة الرضع وبيعهم والتبني غير الشرعي؛ إذ أضحى مشكلة حقيقية بالنسبة للعديد من الإسبان. لذلك، تطالب "منصة المنتدى الدولي لضحايا الاختفاء القسري للأطفال نحن نبحث عنك" (غير حكومية)، بالاعتراف وتعويض ضحايا الاختفاء القسري في البلاد. ماريانو بوينو، المتحدثة الرسمية والمنسقة العامة لمنصة المنتدى الدولي، توضح أنه تم تشكيل برنامجهم الدولي "للعمل من أجل الضحايا المتضررين من الاختفاء القسري للأطفال؛ لأنه في إسبانيا ارتكبت الآلاف من حالات الاختفاء القسري للأطفال منذ عام 1936 وحتى عهد الديمقراطية". واعتبرت المتحدثة الرسمية للمنظمة الإسبانية، في تصريح ل"عربي بوست"، أن "الاختفاء القسري للرضع بالمغرب، يكاد يكون له الشكل والنوع نفسه كما حصل في إسبانيا". إنه "لأمر رهيب كل هذه المآسي التي يعيشها الآلاف من النساء والرجال في العديد من بلدان العالم": تقول ماريانو بوينو، المتحدثة الرسمية والمنسقة العامة لمنصة المنتدى الدولي لضحايا الاختفاء القسري للأطفال. وتقترح المنظمة على البرلمان والحكومة الإسبانيين، مشروع قانون يحمي جميع الضحايا المتضررين من اختفاء الأطفال والتبني غير القانوني، دون تحديد التاريخ والإطار الزمني. فمنصة المنتدى الدولي المشار إليها، تَعتبر سرقة الأطفال أو التبني غير الشرعي لهم، جرائم ضد الإنسانية؛ ولذلك لم تُحدد بمكان أو زمان لكي تنصف كل الضحايا. بدوره، دعا عبد الإله الخضري، رئيس المركز المغربي لحقوق الإنسان، إلى "فتح تحقيق شامل حول الموضوع"، وفي حال "ثبت تورط الحكومة الإسبانية في مثل هذه السلوكيات، فيجب محاكمتها دولياً، ومن حق الضحايا المطالبة بتعويضات وبلمّ الشمل". كما يرى الخضري، في حديث ل"عربي بوست"، أنه "جرى التعتيم على هذه الجريمة، التي تدين الحكومتين الإسبانية والمغربية على حد سواء"، وهو ما يتطلب من السلطات المختصة في المغرب "التدخل بعد إثارة هذا الموضوع الاجتماعي الخطير، والذي يهم الرأي العام المغربي بإلحاح". في انتظار كشف الحقائق يزداد حزن خافيير، فقد باءت محاولاته بالفشل في البحث عن آبائه البيولوجيين في الناظور، رغم تواصله مع رجل أمن سابق في المدينة، وممرضون كانوا يشتغلون في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي بمستشفى المدينة.. لكنه لم ييأس فهو عازم على العودة مرة أخرى. وكالات