هذه الحلقات الرمضانية هي تأملات وقراءة أولية لبعض جوانب حراك الريف، وهي مستوحاة من نبض وزخم الحراك الذي حظيت بفرصة ملاحظة وتتبع بعض لحظاته، والإصغاء الهادئ إلى إيقاعات هزاته وارتداداتها، ونقل شهادات حية من قلب الريف لشباب شاركوا أو تعاطفوا مع الحراك. ” ماعندي بو الوقت دابا !” انتشر هاشتاغ “ماعندي بو الوقت دابا” في مواقع “الفيسبوك” والأنترنت في 22 ماي 2017، وخلق ضجة ونقاشا وسط المغاربة، فخلال زيارة وزير الفلاحة والصيد البحري ضمن وفد وزاري للحسيمة، على خلفية حراك الريف، وأثناء زيارته للميناء دخل في حديث عفوي مع أحد العاملين بالميناء، وهو شاب ثلاثيني يخيط الشباك، يدعى سعيد كريشتو، حيث استفسره عن حاجياته، فكان جواب الشاب: “خصنا الماتيرييل ديال الخدمة وخصنا الحوايج ديال الما.. فهمتيني ولا لا؟، وعاد مازال شي حاجة أخرى، ولكن ما عندي بو الوقت دابا”. إن رفض كريشتو الحديث مع الوزير وقتا أطول بفعل أنه لا يتوفر على الوقت هو في الواقع سلوك يحمل في العمق دلالات ومعاني عميقة بخصوص تحول، بل بداية نهاية نمط معين من العلاقة بين المواطن والسلطة، تحول يستعيد بموجبه المجتمع قوته لتصبح السلطة في خدمته، وفي خدمة قيم المساواة والعدالة الاجتماعية. ويبدو أن دفاع البعض عن فكرة التخوف من المزايدة على هيبة الدولة، ومن كون الدولة لا يمكن ابتزازها، هو تسويغ وتكريس لهيمنة الدولة على المجتمع، إذ هي دائما ينبغي أن تبدو في مظهر القوي، بينما المجتمع هو الضعيف، الذي عليه دائما أن يستجدي عطفها ونيل رضاها. وينبغي الإقرار بأن المركزية المفرطة جعلت الدولة لا تجدد سياساتها وتسير بوتيرة لا تناسب بتاتا وتيرة التحولات الاجتماعية والقيمية التي يعيشها المغاربة. ونحتاج أكثر من أي وقت مضى إلى إعادة السياسة إلى المواطنين عبر خلق ثقافة جديدة للثقة السياسية تكرس ما يسميه جويل ميجدال Joel Migdal المجتمع القوي في إطار دولة قوية عبر تعاضدهما وتكاملهما لتحقيق الضبط الاجتماعي والاستقرار السياسي. من هنا فإن تمتين الثقة ورأب الشرخ الاجتماعي وتقوية موقع المجتمع في علاقته بالدولة سيتطلب ثورة مجتمعية عميقة وبطيئة وهادئة، يتم فيها تحقيق التوازن بين وظائف الدولة التوزيعية وبين حقوق المواطنة والتنمية. في هذا المنحى كشف حراك الريف عن مدى الإنهاك والوهن، الذي أصاب الدولة الوطنية المركزية، القائمة على النموذج المخزني اليعقوبي، الذي سعى إلى احتواء الفضاء العام، وتهميش التعدد المجالي والثقافي والهوياتي اللغوي. وفي تمثلات الكثير من الشباب بالريف للسلطة، غالبا ما يتحدثون عن “المخزن”، فهم لا يعترفون بوجود بعد مؤسساتي للدولة، وينظرون إليها ككيان غريب عنهم ولا يمثلهم، وهذا يجسد أزمة الوسائط السياسية التقليدية، وغياب فضاء عام حقيقي يعبر عن ديناميات الرأي العام والمجتمع المدني. وهنا يتوارث الريفيون أبا عن جد مقولة الحكيم عدنبي نسوق: “إه يا الدولة..إه يا الدولة، الدولة امثا اتگغ نيث” (يا لها من دولة، يا لها من دولة، دولة مثل هذه يمكن أن أنشئها بنفسي). ومن المألوف أن تسمع في الريف تعبير “دولة الكرتون”، “الدولة أوكاتون” أو “دولة كس اللوسا، آك اللوسا”، “دولة حيد الزليج، دير الزليج”. (يستهزئ ساكنة مدينة الحسيمة، كبارا وصغارا، منذ زمن التسعينيات من كثرة المرات، التي تم فيها تغيير أرصفة المدينة وأرضية وشكل الساحتين الرئيسيتين بالمدينة دون أن يفهم أحد الجدوى من ذلك).