بقلم/ذ.التجاني بولعوالي باحث مغربي مقيم بهولندا www.tijaniboulaouali.nl ملكة هولندا المحبوبة تتعرض لمحاولة قتل! توطئة بينما كانت هولندا قاطبة بشتى مدنها وقراها وبواديها تحتفل بعيد الملكة، الذي يحل آخر شهر أبريل من كل سنة (30 أبريل)، إذا بوسائط الإعلام الهولندية الرسمية تنقل قبل حلول فترة الظهيرة، نبأ الهجوم بسيارة سوزوكي سوداء، على موكب أفراد الأسرة الملكية، بما فيهم الملكة (بياتريكس)، التي كانت تقوم بزيارة تواصلية مع ساكنة مدينة (أبلدورن) التي تقع شرق مدينة أمستردام، وتبعد عنها بحوالي 90 كلم. وتجدر الإشارة إلى أنه يتم الاحتفال في هذا اليوم بعيد ميلاد الملكة، التي ختمت هذه السنة عقدها السبعيني، ويؤرخ ظهور أول احتفال حقيقي بهذا العيد في 1890، أي مباشرة بعد وفاة الملك فيلم الثالث، وسوف يتطور بعد ذلك ليصبح عيدا وطنيا يحتفل به الشعب الهولندي كله، وذلك انطلاقا من سنة 1902. وتنظم طوال هذا العيد مختلف الاحتفالات والتظاهرات والأنشطة الترفيهية، غير أن أهم طابع يغلب عليه، هو الطابع التجاري، إذ من عادة الهولنديين أن يخرجوا إلى الشوارع مبكرا، ويعرضوا أغراضهم التي لم يعودوا يستعملونها للبيع بثمن رمزي، في جو من المرح والاحتفالية والنشاط، حتى أن هولندا تصبح عبارة عن سوق كبيرة، ما دام أن التجارة تنشط في معظم شوارع وساحات مدنها وقراها، وقد تغيرت ملامح هذا العيد كثيرا في الآونة الأخيرة، فأصبح هاجس المواطنين، لا سيما ذوي الأصول الأجنبية، هو اغتنام فرصة هذا اليوم، الذي تغيب فيه المراقبة الأمنية والضريبية، لتحقيق تجارة مربحة. لكن عيد هذه السنة حمل للجميع مفاجأة غير متوقعة، وهي محاولة استهداف الموكب الملكي، ومن ثم تسديد ضربة مباشرة للملكة بياتريكس أو لأفراد عائلتها، بما فيهم الملك المستقبلي لهولندا، ولي عهدها وابنها فيلم ألكسندر. * ترى من يقف وراء هذا العمل الشنيع، الذي وجه إلى ملكة محبوبة لدى معظم الهولنديين؟ * ثم لماذا تم اختيار هذا الظرف الحرج، الذي هو ظرف الاحتفال الرسمي والشعبي بعيد ميلادها السبعيني؟ * ثم لماذا تمت هذه العملية (الإرهابية) في مكان عمومي ارتاده مئات المواطنين الأبرياء، بما فيهم الأطفال والنساء والشيوخ؟ * ثم لماذا استهدفت هذه الضربة سائر أفراد العائلة الملكية، الذين كانوا يقلون حافلة مكشوفة، علما بأن ثمة العديد من المناسبات التي تكون فيها الملكة وحدها؟ * أكان الهدف ليس الملكة وحدها، وإنما (ربما!) العائلة الملكية كلها، أم أن الهدف كان فقط إرهاب المجتمع الهولندي بمثل هذا الفعل، أم ماذا؟ ملامح من سيرة حياة ملكة هولندا قبل التعرض إلى حدث الهجوم الإرهابي الذي شُن على الموكب الملكي، حيث كانت توجد فيه ملكة هولندا وأغلب أفراد عائلتها، وأهم خلفياته وملابساته المعلنة والخفية، حقيق بنا تصفح بعض ملامح سيرة هذه الملكة، التي تعتبر عبر عقود طويلة أشهر امرأة تلقي بظلالها الوارفة على المجتمع الهولندي، رغم أن صلاحياتها الدستورية تظل ذات طابع شكلي، إلا أن تأثيرها يظل حاضرا، سواء من خلال سلوكها الحسن والمتميز، أم من خلال أفكارها الحاذقة والنيرة. ولدت الملكة بياتريكس فيلهيلمينا أرمكارد في 31 يناير علم 1938 بمدينة (بارن) الواقعة في وسط البلاد، وتحديدا في إقليم (أوتريخت)، باعتبارها المولود البكر للأميرين جوليانا وبرنارد، وسوف تلحق بها أخواتها الثلاثة: إيرينا (1939)، مارخريت (1943)، وماريكا (1947)، ويعني اسم بياتريكس “من يخلق أو يبعث الحظ”، وقد توخى أبوها الأمير برنارد يوم تسجيلها الرسمي، أن يحمل هذا الإسم البشارة. غير أنه بعد سنتين ونصف من مولد الملكة، وبالضبط في 10 مايو 1940، سوف تهاجم القوات النازية هولندا، وتحكم عليها سيطرتها، لتصبح جزءا لا يتجزأ من الدولة الألمانية، مما جعل العائلة الملكية تغادر هولندا إلى إنجلترا، حيث سوف يستقر ملك هولندا آنذاك جدها فيلهيلمينا وأبوها الأمير برنارد في العاصمة البريطانية لندن، وتتجه هي رفقة أمها جوليانا وأختها إرينا إلى المنفى الاختياري والمؤقت كندا، إلى حدود صيف 1945، إذ سوف تعود العائلة الملكية، لتستأنف من جديد مهمة حكم هولندا. وفيما يتعلق بالمسار الدراسي للملكة، يبدو أنها كانت مجدة ومثابرة، مما جعلها تنال شهادة (خيمنازيوم – دبلوم) التي تماثل البكالوريا عام 1956، ثم شهادة (الدوكتورال) من جامعة لايدن في تخصص القانون والسوسيولوجيا والتاريخ، وذلك في عام 1961، وهي شهادة تعادل الإجازة أو البكالوريوس، وقد بادرت في العام نفسه بتكوين فريق العمل الأوروبي، الذي يدعو الشباب الأوروبي إلى التطوع من أجل توحيد أوروبا، وسوف تصبح لاحقا رئيسة لذلك الفريق. كما أنها في عام 1996 سوف تنال عن مساعيها الرامية إلى وحدة أوروبا، جائزة كارل الرفيعة المستوى، التي تقدمها مدينة آكن الألمانية، ثم إنها في عام 2005 سوف تحظى بدكتوراه فخرية من جامعة لايدن العريقة، مكافأة لها على اهتمامها بحرية الإنسان. وقد أحدث زواج الملكة بياتريكس ضجة كبيرة على الصعيد الهولندي، إذ أنه في الوقت الذي كان يرتقب فيه أن تتزوج برفيق دراستها بوب ستينسما، إذا بها تباغت الجميع باختيارها لرجل غريب هو كلاوس فون أمسبيرخ، وهي مباغتة أوقعت الصدمة لدى مختلف مكونات المجتمع الهولندي، لا سيما عندما تم اكتشاف أن ذلك الزوج المستقبلي من أصل ألماني، وأنه كان عضوا في تنظيم (شباب هيتلر)، مما دعا إلى تشكيل لجنة ترأسها الدكتور ل. دي يونغ التابع للمعهد الحكومي للتوثيق الحربي، بأمر حكومي للنظر في ماضي كلاوس الحربي، فكانت النتيجة أن برئت ساحة الرجل، لأنه في العهد النازي كان إجباريا على أي شاب ألماني أن يصير عضوا في ذلك التنظيم، وعقب ذلك أعلنت الملكة الأم جوليانا في 28 يونيو 1965 بشكل رسمي، خطبة الأميرة الهولندية لكلاوس الألماني. ومع ذلك لم يتقبل قسم من المجتمع الهولندي هذه الخطبة، خصوصا وأنه لم يمض الكثير من الوقت على الحرب العالمية الثانية، وقد زاد الطين بلة عزم العائلة الملكية الاحتفاء بمناسبة الزواج في مدينة أمستردام، التي تقطنها أعداد كبيرة من اليهود، الذين رأوا في ذلك إهانة عظمى لهم، لا سيما وأن القوات الألمانية قامت بتهجيرهم قسرا من أمستردام إلى مخيمات الاعتقال النازية. وقد أخذ الأميران المقبلان على الزواج مشاعر اليهود بعين الاعتبار، فقررا القيام بحفل الزواج بمدينة بارن، غير أن الحكومة تدخلت لتسمح بأن يتم قرانهما بأمستردام، فشهدت بلدية أمستردام في 10 مارس 1966 عقد زواجهما المدني، كما شهدت كذلك (الكنيسة الغربية) في اليوم نفسه عقد الزواج الكنيسي، وقد تم أثناء ذلك الحدث تفجير قنبلة تعبيرا عن الاحتجاج ضد هذا الزواج، الذي كانت نتيجته ثلاثة أبناء/ذكور هم الأمراء: فيلم ألكسندر، جوهان فريسو وكونستانتاين. وفي 31 يناير 1980 أعلنت الملكة الأم جوليانا في خطاب تلفزيوني تنحيها عن العرش، لصالح ابنتها بياتريكس، التي سوف تصبح رسميا ملكة هولندا في صبيحة 30 أبريل 1980، وهو اليوم الذي يواكب عيد الملكة، الذي كان يومئذ مشحونا، لأن هولندا كانت تمر بفوضى اجتماعية خانقة، وأزمة اقتصادية عويصة، تجلت في نقص مهول في السكن، مما جعل حركة السطو على المنازل تتفشى بكثافة في مدينة أمستردام، حتى أنها مارست في يوم تنصيب الملكة مظاهراتها، وهي ترفع شعار: “لا سكن، لا تاج”! وحتى لا يطول بنا الحديث عن سيرة حياة الملكة بياتريكس، ارتأيت أن أستكمله بالتريث عند ثلاثة عناصر أساسية؛ أولها يتعلق بثروة الملكة، وثانيها يرتبط بأهم المهام الرسمية التي يخولها لها الدستور الهولندي، وثالثها يحيل على الجانب الخلافي للملكة، سواء مع الحكومة، أم الإعلام، أم الشعب، أم الأعراف. * ثروة الملكة: قدرت مجلة فوبيس ثروة الملكة بياتريكس بحوالي 2,5 مليار دولار، وهي عبارة عن أسهم في شركتي شال وأبن أمرو. كما أنها تتلقى سنويا مبلغا ماليا من الدولة، وصل عام 2008 إلى 4,2 مليار يورو، ويتلقى كل من نجلها ولي العهد فيلم ألكسندر وزوجه الأميرة ماكسيما المبلغ نفسه. أما التكاليف الإجمالية للعائلة الملكية، فقد بلغ عام 2008 113,9 مليار يورو، كما ورد في تقرير ميزانية الدولة. ويخصص قسط كبير من هذا المبلغ (35 مليار يورو)، لصيانة القصور ومختلف المباني والمؤسسات التابعة للمملكة. * مهام الملكة: رغم أن الملكية في هولندا ذات طابع دستوري وشكلي، فإن مذكرة الملكة تكتظ بالأنشطة والمهام، التي تأتي على رأسها الزيارات الرسمية، وخطابات بعض الأعياد، والمفاوضات المتعلقة بتشكيل الحكومة الجديدة، وزيارات العمل، ومنح الجوائز، وغير ذلك. ويبدو أن أهم مهمة تناط بالملكة هي المشاركة مع الوزراء في تكوين الحكومة الهولندية، غير أنها غير مسئولة عن ذلك، فالمسئولون هم الوزراء، ثم إنها تتحدث كل أسبوع مع رئيس الوزراء وغيره من الوزراء حول الوضعية السياسية، كما أنها توقع القوانين الجديدة، وتتلقى يمين عشرات السفراء والوزراء والولاة وغير ذلك. إضافة إلى أنها تقوم بمختلف الزيارات للمدن والقرى الهولندية، وتدشن المباني الجديدة، وما إلى ذلك من الأنشطة المتنوعة. * الجانب الخلافي للملكة: ومع أن الملكة بياتريكس تحظى بمكانة مرموقة في المجتمع الهولندي، نظرا إلى سيرتها الحسنة، وسلوكها الحميمي، إلا أن ثمة بعض الأمور الخلافية في حياتها وحياة العائلة الملكية، التي جعلت أقلام الإعلاميين وألسنة المتتبعين يتناولونها بنوع الرفض أو التحفظ أو القدح. فقد سعت حثيثا إلى تجنيب العائلة الملكية الوقوع في أي فضيحة، إلا أن هذه الصورة سوف تتغير في أواخر تسعينيات القرن المنصرم، عندما سوف تقف ضد رغبة ابنها فيلم ألكسندر في الزواج من المرأة التي أحبها واختارها، مما سوف يجعل الصحافة الصفراء تنعتها ب “الحماة الساخطة”! وعقب ذلك سوف تسلط الأضواء بقوة على الملكة، ويلاحق الإعلام الهولندي كل شاذة وفاذة في حياتها، في نوع من الخلط بين الحقيقة والزيف، بين الصدق والإشاعة، فقد شاع أنها كانت وراء تأسيس السفارة الهولندية في الأردن لعلاقتها الجيدة بين ملك الأردن الراحل، وأنها كانت وراء نقل السفير الهولندي من جنوب أفريقيا لوقوعه في الخيانة الزوجية، وأنها تؤثر بعمق في تشكيل الحكومة الهولندية، وأنها في سنة 1999 قالت بأن الأكاذيب تسيطر على الصحافة الهولندية، غير أنه اتضح فيما بعد أن كلامها يتعلق برسالة إخبارية لا تمت بأية صلة إليها أو إلى عائلتها، وأنها في سنة 2005 لم تحضر جنازة البابا جوهانس باولوس الثاني، لأن حضور رئيس الوزراء كان كافيا، غير أن ذلك خلق صدمة في الأوساط الكاثوليكية الهولندية، وغير ذلك من المواقف الكثيرة، التي لا يتسع المجال لذكرها، وغالبا ما كانت تؤول هذه المواقف وغيرها من قبل بعض وسائل الإعلام والتيارات السياسية بكيفية سلبية، تنتقد ما تسميه “الظاهرة البياتريكسية”، المسكونة بالعناد والاستئثار والأنانية. محاولة قتل ملكة هولندا يظهر من خلال تتبعنا لأهم أطوار وفصول سيرة حياة ملكة هولندا، أنها لم تتعرض في حياتها بتاتا لأي مكروه أو سوء مباشر ومخطط، رغم أنه قد مضت حوالي ثلاثة عقود على تنصيبها باعتبارها ملكة لهولندا، أي في 30 أبريل 1980، ومنذ ذلك الحين وهي تتحرك بكثافة في كل اتجاه وميدان، وتقوم بالزيارات الشخصية لمختلف الدول والمدن والقرى، بل والجمعيات والعائلات، ولم نسمع بأن شخصا ما هددها، أو أن جهة ما حاولت النيل منها، لذلك فقد طرح حدث تعرضها وعائلتها أثناء عيد الملكة الأخير لهجوم إرهابي، الكثير من الاستفهامات العصية عن الفهم؛ فهل تغيرت هولندا إلى درجة أن ملكتها المحبوبة والموقرة تتعرض أمام الملأ لمحاولة قتل بشعة؟! وهل أصبح الأمن الهولندي هشا حتى أن منفذ العملية اخترقه في رمشة عين، فأين هي الحواجز والمتاريس والكاميرات؟ وبينما كان الشعب الهولندي قاطبة يحتفل بعيد الملكة، إذا بمختلف وسائل الإعلام تنقل خبر تعرض الموكب الملكي بمدينة أبلدورن لهجوم إرهابي، من طرف سيارة سوزوكي سفيفت سوداء، اخترقت بسرعة هائلة الجماهير الغفيرة التي كانت تتابع الموكب الملكي، وتظهر الصور السيارة وقد تحطم جزءها الأمامي، وهي تصطدم بنصب تذكاري، على بعد أمتار معدودات من الحافلة المكشوفة التي كانت تقل أغلب أفراد العائلة الملكية، وقد تسبب ذلك الهجوم في إصابة 17 شخصا، منهم سبعة قتلى، والباقي أصيب بجروح متفاوتة الخطر، غير أن هذا العدد من الضحايا سوف يتغير، ليصبح العدد الإجمالي للقتلى عشرة أشخاص، بما فيهم منفذ الهجوم الذي سوف يموت في ليلة اليوم التالي في الساعة 2:58 صباحا، نتيجة نزيف حاد في الدماغ. إن أي متلق لذلك الخبر المفاجئ، سوف يتساءل بالتأكيد عمن يقف وراء ذلك، مما يعني أن الرأي العام الهولندي قد تتعدد تفسيراته، بدرجات متفاوتة، وفي ضوء الأجواء الجديدة التي تحكم السياق العام الهولندي، يتوقع أن توجه تلك التفسيرات أصبع الاتهام، في الدرجة الأولى إلى ما هو إسلامي، ثم يليه التيار الجمهوري الرافض للملكية، ثم بدرجة أقل لشخص معين يعاني من مرض (سيكوباثي)، أو أزمة نفسية. أولا؛ براءة ذمة الإسلام: اعتاد الجميع في الغرب عامة، وفي هولندا خاصة، أنه بمجرد ما يقع أي اعتداء أو هجوم مسلح، أن يتداعى به الذهن إلى جهات إسلامية معينة، قد تكون معروفة أو مجهولة، فالغالبية العظمى من المواطنين الهولنديين جبلت كلما حدث أي مشكل أو اعتداء أو تهديد، على أن تصوب سهام الاتهام إلى ما هو إسلامي، إلى درجة أنه قد ترسخ في الذاكرة الجماعية أن أي شر يحدق بالغرب أو بمصالحه، إنما هو صادر عن الإسلام وذويه! أما المواطنون من أصول إسلامية، فقد اعتادوا على أنهم كلما وقعت ويلات ما في المجتمع الهولندي، تضرعوا إلى خالقهم على أن لا يكون صاحب تلك الفعلة مسلما، فإن كان مسلما أدركوا تمام الإدراك أن العواقب لن تكون على ما يرام، كما وقع عندما قتل ثيو فان خوخ، وإن كان غير مسلم، تنفسوا الصعداء! كما صنعوا عندما قتل بيم فرتاون من قبل رجل أبيض، ويتكرر السيناريو نفسه، عندما تبين لهم أن منفذ الهجوم الأخير على ملكة هولندا، إنما هو كذلك رجل أبيض! ثانيا؛ التيار الجمهوري الرافض للملكية: وتمثله هيئة الجمهوريين الجدد التي تأسست في 20 يناير 1998، وهي تسعى إلى تجاوز التباين القائم بين طبيعة الحكم في هولندا ونظامها الديمقراطي، مقترحة البديل الجمهوري، وتحاول تأصيل هذه الفكرة وتعميمها وتطويرها، من خلال احتكاكها الحتمي، الذي يتأسس على آلية النقد البناء الذي تروم به تحفيز النقاش حول هذه القضية، ليس على المستوى الوطني فحسب، وإنما على الصعيد الإقليمي كذلك. ويرى هذا التيار الداعي إلى استبدال الحكم الملكي بهولندا بحكم جمهوري، أنه تاريخيا كانت هولندا إلى جانب سويسرا وفينيسيا جنوب إيطاليا أول جمهوريات على صعيد أوروبا كلها، فهي تمتلك بذلك تقاليد وأعرافا جمهورية عريقة، ثم إنه أثناء تشكيل الحكومة الجديدة يعين الملك حسب الدستور الهولندي شخصا يقوم بتكوين الحكومة، وغالبا ما يكون رئيس الوزراء، مما يمنح الملك سلطة أكثر، وهذا ليس معقولا في نظام يدعي الديمقراطية! كما أن سمعة الدولة تظل معلقة في رقبة الملك، الذي إذا هو انحرف، انهارت تلك السمعة كما حصل في بريطانيا، على هذا الأساس فإن هيئة الجمهوريين الجدد تدعو إلى القيام باستفتاء وطني حول مستقبل الملكية في هولندا، تُعطى فيه الفرصة لجميع المواطنين قصد الإدلاء بصوتهم حول هذه القضية. ومع أن هذا التيار يرفض نظام الحكم الملكي بهولندا، فيمكن استبعاد أي ضلوع له في ذلك الهجوم، بل وأن وسائط الإعلام الهولندية لم تشر إليه ولو إشارة عابرة، رغم أنه قد شاع، نسبيا، في بعض الأوساط الشعبية رأي مؤداه؛ أن منفذ العملية ينتمي إلى هذه الهيئة، غير أنه لا أساس لذلك من الصحة والواقعية. ثالثا؛ رجل أبيض ينفذ العملية: كما راج مباشرة عقب تنفيذ ذلك الهجوم الإرهابي، فإن المنفذ هو رجل هولندي الأصل، يدعى كارست تاتس، يبلغ من العمر 38 سنة، توفي متأثرا بالجروح يوما بعد الحادث، مما خلط أوراق المحققين الهولنديين، الذين سعوا حثيثا إلى الكشف عن رأس الخيط في هذه القضية الشائكة والمتشابكة، غير أن الحقيقة حملها معه كارست الراحل، فألقى أكثر من علامة استفهام في طريق اللجنة المكلفة بالتحقيق، رغم أنها وضعت يدها منذ البداية على كل ما يمت بصلة إلى المتهم، فحاصرت بيته، واتصلت بالجيران، واستنطقت والدي الضحية، وغير ذلك من المساعي، إلا أن ذلك كله لم يجد في شيء، ولم يكشف عن المقصد من تنفيذ ذلك الهجوم، وما إذا كانت ثمة جهة معينة حفزت كارست على ذلك، وما إلى ذلك من الأسئلة العصية عن الفهم، لذلك فما كان على المحققين في القضية إلا أن يرجعوا سبب ذلك إلى ما هو شخصي، في انتظار ظهور أي مؤشر جديد، وإن كان الأمر كذلك، أي أن كارست نفذ ذلك الهجوم بدواعي شخصية، ليس غير! فهل تكفي الأدلة التي جمعها المحققون، ونشر أغلبها في الإعلام الهولندي، لدعم هذا التفسير؟ إن وسائط الإعلام الهولندي على اختلاف أصنافها وتوجهاتها، روجت العديد من المعطيات التي تتعلق بمنفذ العملية، وأهمها كما ورد في جريدة تلغراف أنه كان يعمل في شركة خاصة بالأمن والحماية في مدينته أبلدورن، غير أن الشركة سرحته من العمل، فوقع في أزمة مادية، إذ فقد العمل والدخل والمنزل، فقام بتلك العملية انتقاما من تلك الشركة، خصوصا وأنه سوف يثبت لا محالة أن الحماية في المدينة هشة وغير جيدة! وسوف لن ننساق خلف مثل هذه الأخبار المروجة، التي قد تحتمل الصدق أو المغالطة، بقدر ما سوف نعرج على حوار أجرته وكالة الأنباء الهولندية مع والدي كارست، اللذين أصيبا بالذهول والصدمة عندما سمعا هذا الخبر المشئوم، ولم يستوعبا إلى حد الآن لماذا قام ابنهما بذلك؟! لا سيما وأنه لم يعبر مطلقا في حياته عن أي مشاعر عدوانية تجاه الملكة، وأنه كان يحيى حياة جد عادية. حقا أنه قبل عشر سنوات غرق في الديون، ففقد منزله وتسكع فترة في الشوارع، لكنه بعد ذلك تحسنت وضعيته من جديد. بيد أنه منذ سبتمبر الماضي فقد مرة أخرى عمله، فساءت وضعيته، وراح يتصرف كما كان في الماضي، كما أن والديه لم يكونا على علم بأنه منذ أول مارس المنصرم أوقف كراء الشقة التي كان يسكنها. فهل يمكن التسليم بأن هذه الوضعية المتردية التي آل إليها كارست، فادلهمت حياته، واكفهرت نفسه، وانسدت في وجهه الأبواب، هي التي دفعته لأن يعبر عن تذمره وسخطه، من خلال ذلك العمل الإرهابي غير المتوقع! هذا ما لم تكتف به الجهات التي تحقق في القضية، فهي ما فتئت تبحث وتنقب علها تميط اللثام عن خيط خفي يكشف عن الداعي الحقيقي إلى ذلك الاعتداء المشين على ملكة هولندا. خلاصات عامة بعد هذه القراءة الموجزة في جوانب من سيرة حياة الملكة بياتريكس، التي تجلي مدى ثقل وزنها في المجتمع الهولندي، وبعد تناول بعض حيثيات الهجوم الإرهابي الذي تعرض إليه الموكب الملكي في يوم عيد الملكة، وأهم التفسيرات التي أعقبت ذلك الحدث، نخلص إلى ما يلي: * إن الوضعية النفسية والاجتماعية التي مر بها كارست، هي وضعية يمكن وصفها بالمتردية، يبدو فيها كما أنه لا يعيش في هولندا المتقدمة والغنية، التي يحلم الكثيرون بالاستقرار فيها، فأين هي القوانين التي من شأنها أن تحمي كارست وغيره، من الذين يعانون من مشاكل العمل، وانخفاض الدخل، وما إلى ذلك، أم أن القانون الهولندي لا يحمي المغفلين، فهو لا يساعدك ماديا أو معنويا إلا إذا سعيت خلفه، عن طريق مخاطبة مختلف الجهات، وزيارة شتى المصالح، وتشكيل ملف واضح مدعم بالعديد من الوثائق والأدلة، أما إن كنت لا تتقن هذه اللعبة، فسوف يكون مصيرك الإفلاس، وفقد العمل، وإيقاف الدخل، والطرد من المنزل..! كما حدث لكارست المسكين! ثم إن الأزمة الاقتصادية الأخيرة المفتعلة، من شأنها أن تخلق آلاف المواطنين (الكارستيين)؛ أي من طينة كارست، الذين يجدون أنفسهم بين عشية وضحاها بلا عمل ولا دخل متواضع، يوازي ضروريات الحياة من كراء وكهرباء وماء وتأمينات ومأكل... * ثم إن هذا الحدث كشف عن مدى هشاشة نظام الأمن والحماية الهولندي، خصوصا عندما يتعلق الأمر بموكب الملكة، هذا رغم الإمكانيات اللوجيستية والتكنولوجية والإعلامية والمخابرية، التي تتوفر عليها الدولة الهولندية، وإذا كان يريد كارست حقا من خلال فعلته الانتقام من نظام الحماية في مدينته أبلدورن، فإنه قد أصاب لا محالة عين الحقيقة، ووضع شركة الحماية المكلفة بأمن الموكب الملكي في حرج شديد. * إذا كان مقتل السياسي بيم فورتاون في 2003 من قبل رجل أبيض، قد خلط أوراق الأمن والقضاء الهولنديين، وأثبت بأن القاتل أو المعتدي لا يكون بالضرورة ذا شعر أسود! وإذا كان مقتل المخرج السينمائي ثيو فان خوخ، خلط كذلك تلك الأوراق، ليس لأن القاتل رجل أبيض، وإنما لأنه هولندي المولد والتربية والثقافة، أي أنه لم يدرس لا في المغرب ولا في السعودية، ولم يسافر إلى أفغانستان، ولم يلتق بن لادن! وإذا كان الأمر كذلك، فإن حدث الهجوم الإرهابي الأخير على الملكة، بعثر كذلك من جديد تلك الأوراق، وأثبت بلا شك أن الإرهاب لا هوية له، فهو نتيجة منطقية لأي ظلم أو ضغط يمارس على الإنسان، وكما يقول المثل: الضغط يولد الانفجار! * تعمدت منذ البداية استعمال مصطلح الإرهاب، ليس سهوا وإنما عن وعي تام، بأن ما قام به كارست تاتس هو الإرهاب عينه، لما لا وقد أرهب بذلك العمل، ليس الملكة بياتريكس فحسب، التي ظهرت عقب الهجوم مباشرة على الشاشة، وهي في حالة يرثى لها، وقد اعترى ملامح وجهها الشحوب والذهول، وليس الموكب الملكي فحسب، الذي بدا فيه الأمراء والأميرات أثناء وقوع الحادث، وهم يضعون أيديهم على رؤوسهم ووجوههم من الهلع، وإنما الدولة الهولندية برمتها، شعبا وسلطة، غير أنه للأسف تحاول وسائل الإعلام الهولندية، أن تسوق ذلك الاعتداء الذي راحت ضحيته عشرة أنفس بريئة، على أنه ليس عملا إرهابيا، وإنما اعتداء طارئ من شخص عادي، كما صرحت إحدى الوزيرات! لا لشيء إلا لأن منفذ العملية ليس مغربيا ولا تركيا، ولا من أصول إسلامية! ملاحظة: تم الاعتماد في كتابة هذا المقال على المراجع الهولندية الآتية: * موقع المملكة الهولندية: www.koninklijkhuis.nl * موقع الموسوعة الحرة ويكيبيديا: http://nl.wikipedia.org/wiki/Hoofdpagina * موقع هيئة الجمهوريين الهولنديين: www.republikeinen.nl * جريدة إلسفير الأسبوعية: www.elsevier.nl * جريدة تلغراف اليومية: www.telegraaf.nl صور من محاولة الإغتيال