الفصل الضامن لحق الإضراب قد تكرر وبنفس العبارة في دستور 1962 و 1972 و 1992 و 1996 و 2011، وليس من تفسير لذلك إلا التأكيد على مشروعية الإضراب، وهذا التأكيد يعني إلغاء الفصل (5) من مرسوم 2 فبراير 1958.. كتب عبد الله النملي ثمة اليوم بالمغرب خلاف كبير بين المعارضين للإضراب والمؤيدين له من فقهاء ونقابيين، بعد أن شرعت حكومة بنكيران، في خطوة غير مسبوقة، في تحريم الإضراب و الإقتطاع من أجور المضربين في الوظيفة العمومية، بعد مصادقة المجلس الوزاري في مارس الماضي على هذا القرار، مستندة في ذلك على غياب القانون التنظيمي المنظم لشروط وكيفية ممارسة الإضراب. وتوسلت الحكومة في تبرير موقفها على الفصل الأول من المرسوم رقم2/99/1216 الصادر في 10 ماي 2000 الذي يخضع رواتب موظفي الدولة المتغيبين عن العمل بدون ترخيص أو مبرر مقبول للإقتطاع، وكذا الفصل 11 و 41 من مرسوم المحاسبة العمومية الصادر في 1967 والذي يجعل أداء الأجرة مرتبطا بتنفيذ العمل. وقد كان وزير الداخلية أول من قام بتفعيل قرار الحكومة، حين أصدر مذكرة إلى الولاة والعمال يدعوهم إلى الإقتطاع من أجور موظفي الدولة والجماعات المحلية، حيث اعتبرت المذكرة الإضراب عن العمل ” تغيبا غير مشروع وذلك استنادا للقانون الأساسي للوظيفة العمومية والمقتضيات المتعلقة بالغياب عن العمل بدون مبرر قانوني “، وأضافت المذكرة أن ” أيام الإضراب تعتبر خدمات غير منجزة لا تستوجب صرف الأجرة لفائدة الموظفين والأعوان المضربين، حسب ما استقر عليه الإجتهاد القضائي، وفي حالة عدم تفعيل المقتضيات القانونية من طرف الآمرين بالصرف، فإن ذلك يدخل ضمن المخالفات المالية المنصوص عليها في المادتين 54 و 66 من ظهير 13 يونيو 2002 بمثابة مدونة المحاكم المالية “. وبعد ذلك دخل وزير العدل على خط الإقتطاع من أجور موظفي العدل، بناءا على تخريجة قانونية من مدونة الشغل التي لا تطبق على موظفي الدولة، تقوم على مبدأ ” الأجر مقابل العمل، وباعتبار أنه إذا كان الإضراب حقا دستوريا، فإن الدستور أكد على الحكامة الجيدة وربط المسؤولية بالمحاسبة في إطار التلازم بين حقوق وواجبات المواطنة ” . ولم يقف موقف الحكومة عند ذلك بل إقتضى نظرها ترجيح ضمان سير المرفق العمومي، وذلك باعتماد مقتضيات الفصل (5) من مرسوم 1465 .2.57 (2 فبراير 1958 ). الذي ينص على أن ” كل توقف عن العمل بصفة مدبرة، وكل عمل جماعي أدى إلى عدم الإنقياد بصفة بينة، يمكن المعاقبة عنه علاوة على الضمانات التأديبية، ويعم هذا جميع الموظفين ” ، والحكومة بهذا الطرح تلتقي مع منشور الوزير الأول بتاريخ 07 ابريل 1979، تحت رقم 319 /د الصادر قبيل الإضراب الذي خاضه رجال التعليم والصحة أيام 10 و 11 أبريل 1979. وبذلك تكون حكومة بنكيران قد آثرت مبدأ استمرار المرفق العام، ودقت طبول الحرب على الحق في الإضراب ضدا على مقتضيات الدستور الواضحة، معتبرة أن كل انقطاع في سير المرفق العام يعتبر متنافيا مع الهدف الذي أنشئ المرفق من أجله، وهو التزام تلتقي فيه الحكومة مع حق المنتفعين من هذا المرفق بالحصول على خدمات مستمرة، لكنها تصطدم فيه أيضا مع حق الموظفين والنقابات في الإضراب والدفاع عن مطالبهم المشروعة. ونجد نفس الموقف تم التعبير عنه من طرف الحكومة في جواب لها عن ملاحظات لجنة الحريات النقابية التابعة للمنظمة الدولية للشغل بتاريخ 08 دجنبر 1979 تحت عنوان ” التوقيف المدبر عن العمل “. وبهذا تكون الحكومة الحالية قد اختارت الطعن في مشروعية إضراب الموظفين، بالإعتماد على مبررات عتيقة تتراوح ما بين التذرع مرة بغياب القانون التنظيمي، والتفسير التعسفي للدستور، ومرة أخرى بمرسوم 2 فبراير1958 ، أو تركيب التبريرين معا ليصبح هذا المرسوم وبطرح غير سليم قانونا، البديل التشريعي للقانون التنظيمي الغائب، وهي التبريرات التي عرفت انتعاشا كبيرا خاصة بمناسبة إضرابات أبريل 1979 ويونيو 1981 وفبراير ،1994. وفي مقابل الرأي الحكومي القائل بحرمة الإضراب، نجد موقفا آخر يؤيد الإضراب، ولعل ما يزيد من دعم كفة الموقف المؤيد للإضراب، أن كثيرا من المواثيق الدولية التي تعلو على المراسيم المحلية جاءت مؤيدة له ومنسجمة معه، فالإعلان العالمي لحقوق الإنسان في مادته (11) نص على أنه ” يجب ألا يجبر أحد على القيام بعمل بدون رضاه. وبالتالي لا يجوز معاقبته على الإمتناع على أداء عمل معين، وفوق هذا لا يدان أي شخص من جراء أداء عمل أو الإمتناع عن أداء عمل “. ونفس المسلك أكدته الفقرة ” د ” من المادة الثامنة لاتفاقية 87/88 الدولية لحقوق الإنسان الإقتصادية والإجتماعية والثقافية المنبثقة عن المنظمة الدولية للشغل، التي تؤكد على أن ” تتعهد الدول الأطراف في الإتفاقية أن تَكْفَل الحق في الإضراب، على أن يمارس طبقا لقوانين القطر المختص “. وإذا كان المغرب قد صادق على هذه الإتفاقية كما صادق ومنذ سنة 1979 على الإتفاقية الدولية بشأن الحقوق المدنية والسياسية التي تسير هي الأخرى في نفس الاتجاه. فلا يسعنا إلا أن نقف موقف المؤيد للإتجاه المتمسك بمشروعية الإضراب، و ندعو إلى إيجاد نص صريح يحد من الصراع ويعمل على ترسيخ دعائم الديمقراطية والنهوض بدولة الحق والقانون. وحيث أن المغرب قد دخل ابتداءا من سنة 1962 مرحلة الدساتير المكتوبة التي وضعت أسس بناء الدولة الحديثة، فإننا نجد الفصل الضامن لحق الإضراب قد تكرر وبنفس العبارة في دستور 1962 و 1972 و 1992 و 1996 و 2011، وليس من تفسير لذلك إلا التأكيد على مشروعية الإضراب، وهذا التأكيد يعني إلغاء الفصل (5) من مرسوم 2 فبراير 1958. وفي هذا الإطار تندرج حيثيات الحكم القضائي الصادر عن المجلس الأعلى باعتبار سمو الدستور ورفعته عن المرسوم المشار إليه، الذي اعتبر لا غيا وغير دستوري بمجرد صدور الدستور، كما أن مرسوم 1958 ليس من شأنه بحسب قيمته القانونية ومسطرة صدوره أن يحل محل القانون التنظيمي، إذ أن المقصود هو الصادر عن مجلس النواب وفق مقتضيات الدستور، ويتم إبلاغه إلى المجلس الدستوري الذي له حق النظر في المطابقة مع الدستور. ولا أعتقد أن عزوف المشرع عن إصدار القانون التنظيمي من شأنه تحريم الإضراب على الموظفين وبالتالي الإقتطاع من أجورهم، بقدر ما يوحي بمشروعيته، ويمكن ملاحظة ذلك من خلال النصوص التشريعية التي تحرم الإضراب صراحة على أصناف معينة من الموظفين الذين يعتمد عليهم في إقرار سلطة الدولة والمحافظة على النظام، ولعل استثناء المشرع لأصناف من الموظفين وتحريم الإضراب عليهم صراحة، والسكوت عن هذا التحريم لباقي الموظفين، لخير دليل على مشروعية إضراب الموظفين وبطلان عمليات الإقتطاع من أجور المضربين. وتساءل ذ عبد العزيز العتيقي بجريدة الإتحاد الإشتراكي بخصوص قرار الإقتطاع من أجور المضربين استنادا على بعض المراسيم قائلا ” عن أية مراسيم يتحدث ما دام ليس هناك إلا مرسوم يمكن اعتباره داخلا في هذا الإطار وهو مرسوم 5 فبراير 1958 الذي اعتبره البعض بأنه يتعلق بإضراب الموظفين، مع أنه لا يستعمل هذه العبارة بصفة صريحة”. و في رأي ذ العتيقي ” يتحدث هذا الفصل عن العصيان وليس عن إضراب منظم له أسبابه ومبرراته “، متسائلا ” كيف نوفق بين هذا الفصل إن كان يتعلق بالإضراب والفصل الثاني من نفس المرسوم الذي يضمن حرية النشاط النقابي للموظفين؟ وكيف نسمح بالإنتماء النقابي ونؤكد على عدم تأثير هذا الإنتماء النقابي والنشاط النقابي على الوضعية الإدارية للموظف، ثم نأتي بعده ونمنع عليه حق الإضراب مع أن هذا الأخير يعتبر من أساسيات العمل النقابي؟ “. ويضيف أنه ” إذا افترضنا أن هذا المرسوم يحرم حق الإضراب على الموظفين، فمعنى ذلك أن الإضراب يعتبر غير قانوني، وبالتالي يدخل ضمن لائحة التغيبات غير القانونية. لكننا عندما نراجع القانون الأساسي للوظيفة العمومية ظهير 15 فبراير 1958 وهو النص المعتمد في لائحة التغيبات غير القانونية لا نجد ضمنه الإضراب، وبذلك فالمفهوم المعاكس للائحة التغيبات الحصرية يفضي إلى القول بكون الإضراب ليس تغيبا غير قانوني عن العمل، و إلا لتم ذكره صراحة ضمن اللائحة المذكورة. ومن الناحية الشكلية فإن التراتبية القانونية تقضي بتفوق القانون العادي (التشريع) على المرسوم. وتبعا لذلك فباعتبار التنافي القائم بين مرسوم 5 فبراير 1958 وظهير 15 فبراير 1958 المذكورين فإن الأولوية في التطبيق لهذا الأخير احتراما للتراتبية المذكورة “. واستطرد قائلا ” أن هذا المرسوم لم يبق له أي معنى وأصبح لغوا بعد صدور دستور 1962 الذي حصر نطاق تنظيم حق الإضراب في مجال القانون التنظيمي، وبالتالي أصبح أي تدبير إداري وأي نص قانوني خارج هذا المجال يتناول حق الإضراب يتسم بعدم المشروعية الدستورية ” . وعن مبدأ الأجر مقابل العمل الذي اعتمدته الحكومة، يقول العتيقي أنه ” مبدأ نشأ في إطار قانون الشغل بناءا على المنطق المدني التعاقدي القائم على الآثار القانونية لعقد الشغل باعتباره عقدا تبادليا وملزما لجانبين طرفي العقد. فالأجير ملزم بالعمل ومقابله المشغل ملزم بأداء الأجر، وإذا توقف الأجير عن عمله حق للمشغل التوقف عن أداء الإلتزام المقابل ( الأجر) ما لم يقض القانون بخلاف ذلك لأسباب محصورة ( العطلة السنوية، بعض التغيبات..) “. ويخلص العتيقي بالقول أن ” هذا المنطق لا يمكن إعماله في إطار الوظيفة العمومية لأننا لسنا بصدد عقد، فعلاقة الموظف بالإدارة هي علاقة نظامية وليست علاقة تعاقدية. فالنظام الأساسي للوظيفة العمومية هو الذي يحدد حقوق وواجبات كل من الموظف والإدارة ولا وجود نهائيا لمبدأ سلطان الإرادة كأساس للعملية التعاقدية في إطار قانون الشغل..وبذلك يكون تطبيق الأجر مقابل العمل في إطار الوظيفة العمومية كمبرر للإقتطاع من أجور المضربين، فيه تجاهل للفوارق الجوهرية القائمة بين وضعية الأجير ووضعية الموظف وقانون الوظيفة العمومية، وبين علاقة الإجارة والعلاقة النظامية “. واستنكر نقابيون القرار الحكومي واصفينه بالمحاولة الحكومية لإخراج القانون التنظيمي للإضراب الذي يرفضونه، داعين أولا إلى إخراج قانون النقابات وإلغاء الفصل 288 من القانون الجنائي، ومعتبرين أنه ” تضييق على حقوق الشغيلة المغربية التي أقرتها اتفاقيات منظمة العمل الدولية، وضرب صارخ للحريات النقابية ” بناءا على تخريجات غير قانونية تشرعن للإقتطاع وتتنافى مع الدستور الجديد، ما دام القانون المنظم للإضراب لم يصدر بعد، معتبرين القرار الحكومي تجاوز صارخ للدستور الذي يضع حق الإضراب في الفصل 29 المتعلق بحرية الإجتماع والتجمهر والتظاهر السلمي، كما وصفوا مذكرة وزير الداخلية ب ” المُخَالفة لجميع الدساتير التي عرفها المغرب بخصوص الإضراب” وتمثل ” شططا مخالفا لدولة الحق والقانون، وتدخلا سافرا في شأن المنتخبين، وهو التدخل الذي ظلت وزارة الداخلية ترفضه في الفترات السابقة من قبيل التدخل لتنفيذ أحكام قضائية لفائدة الموظفين، أو التراجع عن قرارات التوقيف عن العمل لأسباب نقابية بدعوى ألا سلطة قانونية لها على رؤساء الجماعات “. و اعتبرت الرابطة المغربية للمواطنة وحقوق الإنسان الإقتطاع من أجور المضربين عن العمل ضربا للحقوق والحريات النقابية، ومسا خطيرا لممارسة الحق في الإضراب، خصوصا في غياب قانون تنظيمي للإضراب، كما قررت توجيه مذكرة قانونية توضيحية في الموضوع إلى كل من رئيس الحكومة و وزير العدل وباقي المتدخلين في الموضوع، حول لا قانونية الاقتطاع من أيام الإضراب وفق الدستور المغربي والقوانين الدولية ذات الصلة، وتوجيه مراسلة لمنظمة العمل الدولية من أجل طلب تحكيمها في الموضوع، وكذا مطالبة الحكومة المغربية والبرلمان المغربي بإخراج قانون تنظيمي للإضراب وقانون تنظيمي للنقابات في أقرب الآجال. مراجع المقال: 1_ أحمد محمد قاسمي_ السلسلة الإدارية 5 _قانون تسيير شؤون الموظفين والموظفين الجماعيين. 2_ عبد العزيز العتيقي_ الإقتطاع من أجور موظفي العدل خارج التغطية المشروعة_جريدة الإتحاد الإشتراكي_ عدد 10.242 بتاريخ 09 نونبر 2012 .