طوال شهر رمضان الكريم تلتقون يوميا من حكايا سينمائية بقلم المخرج المغربي عز العرب العلوي، والتي ينقلنا من خلالها الى كواليس افلامه الوثائقية والسينمائية. الحكاية :20
في الحديقة أمام مقهى المغاربة ..كانت الساعة تشير الى الثامنة صباحا.. لكن الحرارة كانت تفوق الاربعين .. جلست قرب جماعة من المصريين لكن الشمس كانت حارقة جدا ..بحثت عن بقعة ظل فارغة في تلك الحديقة ..فلم اجد سوى مكانا قرب شاب لايزال يغط في نومه ..فمه مفتوح وشخيره يؤنس المكان ..وضعت امتعتي الثقيلة قربه وجلست ..كنت بين الفينة والأخرى أنظر اليه وأحدث ضجيجا لعله يستيقظ ..لكن لاحياة لمن تنادي .. بالقرب من الحديقة مباشرة ..امامي هناك على الطريق .. حافلة للركاب تتوقف . فرملة السائق القوية واستعمال المنبه المزعج بقوة جعل الكل ينتبه الى ما يحدث على الطريق.. في الحديقة قفز كل من كان نائما. حتى ذلك المصري الشاب الذي كان نائما بجانبي قفز مرتين .. مرة على قوة منبه الحافلة و المرة الثانية على اكتشافه انني أشاركه ظل الشجرة ... كل من كان يتواجد بالحديقة توجه بسرعة نحو الحافلة .. بعد فترة قصير عاد الكل الى مكانه خائبا.. انذار خاطئ .. ليست هي تلك الحافلة التي ينتظرها الجميع…عاد شريكي في الظل هو الاخر الى مكانه . وهو يرعد ويزبد على حظه العاثر .. رمى بصرة أغراضه على الارض ثم رمى بجثته في مكانه المعهود ..التفت نحوي وسألني بعفوية و بلهجته مصرية صعيدية : انت كمان طردوك من العمل ..أعايز ترجع مصر …؟ قلت له بلهجة مصرية مكسرة : لا انا عايز أروح مصر لأول مرة ..انا رايح هناك علشان أدرس سينما… اعتدل الرجل في جلسته وقال : انت من وين انشاء الله ..؟ .قلت له : انا من المغرب .. ابتسم وقال لي : أجدع ناس والله .. واسترسل في حديثه وقال : جيت امتى لطرابلس ؟ قلت له : امبارح .. مد يده نحوي وقال : محسوبك رمضان .. صنايعي ميكانيكي.. بادلته السلام واستمر في حديثه وقال : انا بأ جيت ليبيا من خمس شهور .. جيت من غير عقد عمل ..سكيتي يعني ..اولاد الابالسة اللبيين استغلوني .. ما حوشتش ولا حاجة ..حيا الله باكل .. في مصر والله كنت أحسن بكثير .. هنا المعيشة صعبة أوي ..او ممنوع تطلع معاك من ليبيا قرش ابيض .. يعني .. تشتغل وتعيش..تحوش وتبعث لمصر ..لا .. قال هذا الكلام واعتصر وجهه ألما .. شعرت بآن الفرصة مواتية جدا لأسأله عن الكيفية التي سيعود من خلالها لمصر .. لكنه كان في كل مرة يقاطعني و يسترسل في الحديث عن همومه ومشاكله .. استمعت اليه كثيرا. كانت تلك المدة التي قضيناها مع بعض تحت ظل تلك الشجرة الايلة للسقوط ..كافية لكي اتعرف على رمضان وعلى عائلته فردا فردا ..وعن السعدية التي كانت تطارده لأجل الزواج بها وهو لايحبها ..وعن شباب حيه الذي يحلم بالهحرة . وفي الاخير قطعت حديثه بدون مقدمات وقلت له : آنا عايز أروح معاكم مصر .. او عايزك تساعدني علشان ما معيش فلوس كثير .. توقف عن الكلام ونظر الي متفحصا وقال بهدوء تام : لو السواق يعرف انك مغربي مش حيرضى اطلعك معانا . فقلت له : ايه العمل ؟.. قال لي : لو عملت نفسك مصري ..كلامك المصري مكسر مش حينفع.. قلت له : طب والعمل ايه.. منا لازم أطلع معاكم ؟ صمت قليلا وقال لي : تقدر تعمل نفسك اخرس لغاية ما نخشو لمصر.. تقدر ؟ قلت له : ولماذا اخرس ...قال لي : لو انت أخرس ..السواق مش حيعرف اصلك منين.. ووشك اوهو .. زي المصريين .. وفي نفس الوقت حتصعب عليه أكثر … ايه رأيك.. تقدر ؟ قلت له : سأحاول .. . .. في ساعة الظهيرة تناولنا الغذاء سويا ..من بائع خضر متجول اشتريت طماطم وبصل وقام هو بتحضير السلطة.. وبعدها جلبت من الدكان المجاور علبة سردين ..صاحب الدكان اكد لي انه سردين مغربي. لكن المنتوج كان مجهول الهوية وبدون تاريخ صلاحية …. أكلنا وضحكنا وتبادلنا سرد النكت .. وبعدها شربنا عصير " كركاديه " وهو عصير عشب حامض المذاق لونه احمر داكن.. كانت مكوناته الطبيعية مخبأة في صرة رمضان .. مع تمام الساعة الثالثة حضرت الحافلة ..قفز الكل من مكانه واتجه الجميع نحوها .. وقف سائق الحافلة .. وهو مصري أسمر طويل القامة وممتلئ الجسد .. وقف في أول درج للصعود من الباب الامامي وبدأ يخطب فينا قائلا : اسمعوا ..مش عايز مشاكل ..اللى معاه حاجة ممنوعة في شنطتو ابعد عننا.. اللي شايل قطعة حشيش علشان الاستعمال الشخصي مش عايزينو … بدا الكل يقسم بالله انهم في السليم ..لحسن حظي ذلك اليوم كان عدد الركاب لايتجاوز الاربعين نفرا في حين طاقة الحافلة اكبر من ذلك..سألت رمضان عن ثمن التذكرة ...قال لي بصوت خافت : 20 دينارا ليبيا ...قال ذلك وطلب مني السكوت ..يا له من سعر مناسب ..ارخص من ليلة في فندق صاحب المزمار المكسور.. خاصة وان السعر الرسمي الحقيقي في المحطة يفوق مائة دينارا … بدأ المساعد يأخذ امتعتنا ويضعها في حقيبة الحافلة.. حين اعطيته حقيبتي لم اتكلم معه اطلاقا ..هو الاخر اخذها ووضعها في مكانها دون سؤال ..كنت التصق برمضان كظله . وحين وصلنا أعلى درج مدخل الحافلة .. رمضان دفع الثمن المتفق عليه أعطاه ورقة ودخل ..وضعت انا كذالك نفس المبلغ في يد صاحب الحافلة .. تطلع الي قليلا..وتردد في السؤال ثم أعطاني ورقة و تركني أدخل الى رواق الحافلة .. فرغم قصر تلك المدة التي إلتقت فيها عيوننا .. إلا انها كانت بالنسبة لي زمنا ثابتا يجر عقاربه ببطئ شديد... على ايقاع صوت أم كلثوم انطلقت الحافلة كالسهم في طريق مستقيم ..لا اعوجاج فيه أبدا ..صحراء شاسعة منبسطة جدا ..لاوجود هناك أيضا لا لتلال أو لجبال ولا لنقط التفتيش ...لا طير يطير ولا سير يسير .. هو فقط النبات الشوكي من كان يملأ الفراغ ... حسابات كثيرة هي من كانت وراء سرعة الحافلة الجنونية .. مسافة الف كيلومتر تقريبا و التي كانت تفصل بين طرابلسوبنغازي .. جودة الطريق وخلوها أيضا من السيارات نهائيا .. كان رمضان يتحدث الي خلسة من الجميع.. وحينما كنا نكتشف ان احدهم يسترق النظر الينا .. يبدأ رمضان باستعمال يديه لشرح مايريد قوله ...كنا نضحك لهكذا أفعال ..
مع منتصف الليل تقريبا وصلنا الى مدينة بنغازي.. رفض صاحب الحافلة الوقوف في وسط المدينة لتناول العشاء وقضاء الحاجة ..خشية ان يتيه احدهم او يطول انتظاره ..أكمل الطريق نحو مقهى مهجور من الزبائن خارج المدينة..مقهى متخصص في أكلة الدجاج بالارز.. عندما وصلنا الى عين المكان توقفت الحافلة .. نزل الجميع.. أخدنا طاولة انا ورمضان خارج المقهى وقمنا بطلب دجاجة كاملة .. كنت انا من دفع حسابها عربونا على حسن صنيعه ...بعد نصف ساعة من الزمن صعد الكل الى الحافلة ... صعد رمضان بمجرد عودته من المرحاض الى الحافلة دون ان ينتبه الي وأنا أقف في الطابور لدفع الحساب .. عندما تمكنت من ذلك ..توجهت بسرعة الى المراحيض.٬ حتى لا أضطر فيما بعد الى طلب توقف الحافلة.. كما كان يفعل اغلب الركاب طيلة الطريق.. ونحن نشاهدهم من النوافذ وهم يبتعدون بعيدا عن الحافلة .. دون ان يجدوا لأنفسهم مخبأ سوى الاختباء في جلابيبهم الواسعة .. حين اغلقت باب المرحاض استسلمت للراحة التامة ..فلم ادخل حماما منذ ثلاثة ايام . الخلاء فقط هو من كان يأويني ...انتهيت من ذلك في وقت لم يتعدى خمس دقائق تقريبا.. حاولت الخروج .. فجأة وبدون سايق انذار تعطل المزلاج. ولم استطع فتح باب المرحاض.. تملكني خوف شديد من فقدان الحافلة .. بدأت أدق الباب بقوة ..أدق لغاية ما كل متني .. كنت اسمع منبه الحافلة بصوته المزعج في الخارج يستعجلني … ثم اعود لدق الباب من جديد وبقوة أكبر ..لا احد يسمع.. لا احد يجيب .. كيف يمكنني ان أصيح.. سينكشف امري ...طرقت الباب مرات عديدة الى درجة أني احدثت كسورا في الباب .. سمع النادل ذلك اخيرا فجاء مسرعا ..فتح الباب و أنبني على اغلاقه بالمزلاج والذي لم يعد يستخدمونه منذ مدة ... ودعاني للالتحاق بالحافلة بسرعة . فهي على أهبة الانطلاق . بسرعة صعدت الى الحافلة ..وانا في مدخل الرواق انتبهت الى وجوده يعترض طريقي فتوقفت ..نعم كان واقفا هناك صاحب الحافلة ..نظرت اليه وأدركت انه سيوبخني على تأخري لا محالة..نظرت الى الجميع فوجدت ان الكل يتطلع الي بنظرات غريبة ..بل سمعت شتما من بعضهم ايضا .لا مشكلة سأتحمل التوبيخ لأنني استحق ذلك فعلا.. تطلع الي صاحب الحافلة وهو يغلي من داخله وقال : كان من المفروض عليك ان تدفع ثمن تذاكر هؤلاء الغلابة عوض ان تستغفلنا وتستفيد من تذكرة البؤساء . لا أدري بماذا ابتليت في تلك اللحظة…لكن تيقنت تمام اليقين بأن الامر أكبر من تأخير الرحلة ا .. تابع حديثه من تحت أضراسه وقال : أنت مغربي ..والمغاربة ماشاء الله لا تنقصهم الاموال …و ..و..و … قال ذلك بتهكم كبير وبكلمات مخلة بالاداب .. شعرت حينها ببرودة تسري في جسدي.. لم اجد ما ادافع به عن نفسي... لكني استدركت الامر وجمعت كل ماتبقى من طاقتي كاملة وقلت له : اولا انا مجرد طالب مغربي يحب السينما.. و ثانيا انا الان متوجه الى القاهرة بغرض الدراسة .. وثالثا أنا لست من اغنياء المغرب.. ولو كنت كذلك لتوجهت بالطائرة الى القاهرة مباشرة ..عوض ان اتحمل مشاق الطريق برا لمدة عشرة أيام ..وأتلقى هذا الكلام النابي منك .. فكر قليلا وتابع حديثه كما البداية وقال لي: على الاقل يجب ان تدفع ضعف تذكرة المصريين ..أو سأتركك يا روح امك هنا في هذا الخلاء ... قلت له بثبات : ليس لدي ما اضيفه.. وهذا الامر كان يجب عليك ان تقوله هناك في طرابلس.. هناك لم تسألني ان كنت مصريا او مغربيا ..لو رفضتني حينها او طلبت سعرا مضاعفا ٬ لكنت قد غيرت الحافلة وانتظرت أخرى في نهار الغد .. نظر الي بنظرات حادة جدا..ثم نظر الى ساعته.. و استدار ..وأغلق الباب.. وأمر السائق بالانطلاق .. تقدمت ببطئ نحو مكاني قرب رمضان .. كان الكل ينظر الي كمخلوق غريب.. عيونهم كانت تلسعني في كل أنحاء جسدي.. كأنني انا المسئول عن جميع ازماتهم ومشاكلهم المادية .. رغم الظلام الدامس في الخارج ..رمضان كان وجهه ملتصقا بالنافذة..كان يتحاشى النظر الى وجهي.. انطفأت انوار الحافلة.. وعادت ام كلثوم الى الغناء من جديد ..عادت لتصدح برائعتها :" كلموني ثاني عنك ... فكروني .. فكروني صحوا نار الشوق.. الشوق الي في قلبي .. و فعيوني .. رجعولي الماضي ... "... رمضان لم ينبس ببنت شفة.. ظل صامتا لمدة طويلة ..وحينما قرر ان يتحدث قال بصوت خافت : انا من اخبر السائق بغيابك لأنه كان سيرحل بدونك.. ولما استفسر عنك.. قلت له انك مغربي ..فقد خشيت من ان تتطور الامور وألا تعود ... لم ألتفت الى رمضان وهو يتكلم و يبرر مافعله.. بل تركته يكمل حديثه بهدوء تام.. وقلت له بصوت خافت انا ايضا : هل سبق لك وان دخلت الى حفل مباشر لام كلثوم … ضحك وقال :ادخل فين لقبرها ..دانا عرفتها وهي ميتة .. ضحكت لردة فعله السريعة ..ولم اضف شيئا سوى اني تجاهلت كل ماحدث ..وطلبت منه ان يوقظني اذا حصل و اعوجت رقبتي واشتد شخيري ... وافق ضاحكا .. وضعت راسي بين يدي واستسلمت للنوم رغم هدير محرك الحافلة الذي كان يزعجني وهو يمخر عباب الظلام الدامس في ارض خلاء شاسعة كالكون ..\ البقية غدا.. محبتي