يحتفل العمال في العالم بيومهم العالميِّ الذي يوافق فاتحَ ماي من كل عام حيث يتوقفون في هذا اليوم عن العمل ، ويخرجون للتظاهر في الشوارع ، رافعين رايات ومرددين شعارات ، تعبِّر عن سعادتهم بما تحصَّل لهم من حقوق ومكاسب ، عبرَ مسيرة طويلة من النضال ، ويُعربون عن استعدادهم لمواصلة النضال من أجل حماية تلك الحقوق والمكاسب وللمطالبة بالمزيد منها .. والعامل المسلم هو واحدٌ من هؤلاء العمال يعنيه ما يعنيهم لكن بعد استيفاء ربِّ العمل حقَّه هو الآخرُ من العامل ! إذ المسألة حقوق متبادلة فكل حق يقابله واجبٌ وقد علمنا ديننا أن نؤديَ الحق الذي علينا قبل أن نسأل الحق الذي لنا ! ولو أن كل طرف في عقد أو عهد التزم بما عليه قبل أن يطلب ما له لما سمعنا طرفاً يشكو آخر ! وقد قال تعالى : ( وجعلنا بعضكم لبعض فتنة أتصبرون ) [ آية 20 : الفرقان ] وقال صلى الله عليه وسلم : ( ألا كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته ) [ البخاري ] !. وقبل أن نأخذ في الحديث عن الحقوق المتبادلة بين العمال وأرباب العمل نبدأ بالحديث عن العمل نفسه لنتعرَّف على قدر العمل وقيمتهِ في الإسلام : لقد خلق الله تبارك وتعالى الإنسان وحصر غايته من خلقه في عبادته ! فقال : ( وما خلقت الجن والإنس إلاّ ليعبدون ) [ آية 56 : الذاريات ] ليعبدوه بالنية ، ويعبدوه بالقول ، ويعبدوه بالعمل ، ليعبدوه بالعمل التعبُّديِّ الخالص مثل الصلاة والصوم والصدقة .. وليعبدوه بالعمل العاديِّ الذي يقوم به كل إنسان في كل يوم من حين يستيقظ في الصباح إلى أن يُسلم نفسه للنوم في المساء ، وقد قال صلى الله عليه وسلم : ( كل الناس يغدو ) لكن هناك مَن يغدو ليُعتق نفسه ! وهناك من يغدو ليُوبقها !. نعم إن الزارع في حقله والصانع في مخبره والتاجر في دكانه والموظف في في مكتبه وكلَّ ذي حرفةٍ في حرفته .. يستطيع أن يجعل من عمله هذا محراباً للعبادة والتقرب إلى الله إذا التزم فيه بالضوابط التي شرعها له ومنها : أن يكون العمل مأذوناً به شرعاً : أما الأعمال التي يُنكرها الشرع كالعمل في الحانات والمراقص وغيرِهما فلا يكون ولن يكون عبادة تقرب إلى الله ! ومنها : أن تصحبه النية الصالحة : فينوي المسلم من عمله إعفافَ نفسه وإغناءَ أهله ونفعَ أمته وعمارة أرضه كما أمره ربُّه في قولهِ : ( هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها فاستغفروه ثم توبوا إليه ) [ آية 60 : هود ] ومنها : أن يُؤديَ عمله بإتقان : لحديث ( إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه ) [ البيهقي ] ومنها : أن يلتزم فيه حدود الله تعالى : فلا يخون ولا يغُش ولا يَجور على حقوق الغير ! وأخيراً : ألاّ يشغله عمله هذا عن واجباته الدينية : قال تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله ومن يفعل ذلك فأولئك هم الخاسرون ) [ آية 9 : المنافقون ] وقال يَمتدح رواد المساجد ( رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة يخافون يوماً تتقلب فيه القلوب والأبصار ) [ آية 36 : النور ] ولذ قال العلماءُ : إن أفضل العبادة إرضاءُ الله تعالى بما تقتضيه ظروف كل وقت : فأفضل العبادة في وقت الصلاة أداؤها ! وأفضل العبادة في وقت الجهاد المشاركة فيه ! ولو أن مسلماً رأى غريقاً يستطيع أن يُنقذه فانصرف عنه إلى أداء الصلاة لكان آثماً ! ولو أنه سمع نداء الصلاة فانصرف عنها إلى عمل آخرَ يُمكنه القيامُ به في وقت آخرَ لكان آثماً ! وهذا يدل على مَدى التلازم والتكامل في دين الإسلام بين العمل العباديِّ والعمل العاديِّ ! فليس في الإسلام طريق يُوصل إلى الآخرة اسمُه العبادة وطريق آخرُ يوصل إلى الدنيا اسمه العمل وإنما هو طريق واحدٌ ، بدايتُه في الدنيا ، ونهايته في الآخرة ، قال تعالى : ( وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا وأحسن كما أحسن الله إليك ) [ آية 77 : القصص ] !. إذا كنا على بينةٍ مما تقدم ننتقل إلى الحديث عن العمل الذي يطالب العمال في يومهم هذا بحقهم في الحصول عليه وحقهم في الأجر الكافي عنه ثم حقهم في المعاملة الحسنة قبله وأثناءه وبعده .. لقد سخر الله تعالى الأرض للإنسان بعد أن بارك فيها وقدَّر فيها أقواتها وكلفه بالسَّعي في مَناكبها لتحصيل نصيبه من رزق الله ونهاه عن التبطل والقعود عن العمل فقال على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم : ( لأن يأخذ أحدكم أَحبُله ثم يأتيَ الجبَل فيأتيَ بحزمةٍ من حطب على ظهره فيبيعَها فيكفَّ الله بها وجهه خيرٌ له من أن يسأل الناس أعطوه أو منعوه ) [ البخاري ] من أجل ذلك حرَّم الصدقةَ على الأغنياء والأقوياء ! وحرَّم التسول على القادرين على العمل ، الواجدين له الحاصلين على ما يكفيهم وذويهم منه ، فقال : ( لا تحل الصدقة لغنيٍّ ولا لذي مرَّة سويٍّ ) [ الترمذي ] وقال : ( لا تزال المسألة بأحدكم حتى يلقى الله وليس في وجهه مُزعة لحم ) [ متفق عليه ] وإنما دعا الإسلام المسلم إلى الإستعانةِ بالله تعالى اعتماداً وتوكلاً ثم الإعتماد على نفسهِ سعياً وعملاً ليصون بذلك كرامته ويحفظ شرفه ومروءته .. ولذا ندبَه أن يرتزق ويكتسب عن طريق الزراعة أو الصناعة أو التجارة أو الحرفة أو الوظيفة أو العمل مع الغير بأجرة .. المهم أن يكون العمل الذي يقوم به مما أذن الله به وَأن يَلتزم فيهِ بشرعهِ !. هذا ومن الأعمال التي تقتضي تبادل الحقوق والواجبات بين العمال وأرباب العمل العمَل في وظيفةٍ أو مع الغير بأجرة : أما الوظيفةٍ سواء كانت تنتمي إلى القطاع العامِّ أو القطاع الخاص فللمسلم أن يطلب رزقه عن طريقها ما دام قادراً على تبعات عمله فيها ! ولا يجوز له أن يرشح نفسه لعمل ليس له بأهل ! خصوصاً المناصب الحساسة كالإمارة أو القضاء !! فعن أبي ذر الغفاريِّ رضيَ الله عنه قال : قلت : يا رسول الله ألا تستعملني ؟ قال : فضرب بيده على منكبي ثم قال : ( يا أبا ذرٍّ إنك ضعيف ، وإنها لأمانة ، وإنها يوم القيامة خزيٌ وندامة ، إلاّ مَن أخذها بحقها ، وأدّى الذي عليه فيها ) [ مسلم ] وعن عبد الله بن سمرة رضي الله عنه قال : قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( يا عبد الرحمن ، لا تسأل الإمارة ، فإنك إن أُعطيتَها من غير مسألةٍ أُعنت عليها ، وإن أُعطيتَها عن مسألةٍ وُكلتَ إليها ) [ متفق عليه ] وأما العمل مع الغير بأجرة فقد اهتم به الإسلامُ اهتماماً زائداً تشجيعاً عليه وترغيباً فيه من جهةٍ وحمايةً لحقوق مَن يؤديه ومَن يُؤدَّى له من جهةٍ ثانية قال تعالى : ( وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون وستردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون ) [ آية106 : التوبة ] وقال نبيه صلى الله عليه وسلم : ( إن الله يحب العبد المحترف ) [ القرطبي في تفسيره ] وقال فيما يرويه عن ربه عز وجل مُنذراً بالحرب منه كل مَن يَجور على أجيره ولا يُعطيه حقه : ( ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة : رجل أعطى بي ثم غدر ! ورجل باع حراً فأكل ثمنه ! ورجل استأجر أجيراً فاستوفى منه ولم يُعطه أجره ) [ البخاري ] !. لذا نجد في كتب الفقه أنواعاً من العقود لأنواع من الأعمال مثلَ عقد الإجارة : وهو عقد على المنفعةِ بعوَض ، والمنفعة قد تكون منفعة عيْن كسكنى الدار وركوب السيارة .. وقد تكون منفعة عمل .. وقد استأجر سيّدًنا موسَى عليه السلام شيخٌ كبيرٌ ثمانيَ سنين على أن يُزوجه إحدى ابنتيْه .. قال تعالى على لسان ذلك الشيخ : ( قال إنيَ أريد أن أنكحك إحدى ابنتيَّ هاتيْن على أن تأجرني ثمانيَ حجج فإن أتممت عشراً فمن عندك وما أريد أن أشق عليك ستجدنيَ إن شاء الله من الصالحين قال ذلك بيني وبينك أيَّما الأجلين قضيت فلا عدوان عليَّ والله على ما نقول وكيل ) [ آية 27 : القصص ] وَعقد الجِعالة : وهو عقدٌ على مَنفعةٍ يُظن حصولها .. كمن يلتزم بجُعل أجر لمَن يَردُّ عليه متاعه الضائع أو دابَّته الشاردة .. والجعالة مَشروعة بقوله تعالى على لسان نبيِّه يوسف عليه السلام : ( ولمن جاء به حمل بعير وأنا به زعيم ) [ آية 72 : يوسف ] وعقد المزارعة : وهو إعطاءُ الأرض لمَن يزرعها نظيرَ نصيبٍ متفق عليه مما يخرج منها .. وعقد المساقاة : وهو دفع الشجر لمَن يَسقيهِ ويَتعهده حتى يبلغ تمام نضجهِ نظيرَ جزءٍ من ثمره .. وعقد المضاربة : وهو عقد بين طرفين يدفع أحدهما نقداً للآخر ليتجر فيه على أن يكون الربح بينهما .. وإنما وَضع الفقهاءُ هذه العقود لحماية تلك الحقوق المترتبةِ على تلك المعاملات التي لا يستغني عنها الناسُ بحال ! قال تعالى : ( نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضاً سخرياً ) [ آية 31 : الزخرف ] وقال : ( وإن كثيراً من الخلطاء ليبغي بعضهم على بعض إلاّ الذين آمنوا وعملوا الصالحات وقليل ما هم ) [ آية 23 : ص ] وتقدم في الحديث : ( ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة وذكرَ منهم ورجل استأجر أجيرَه فاستوفى منه ولم يُوفه حقه ) ولا يكفي أداءُ حق الأجير كاملاً بل لا بدّ من أدائه له عاجلاً كما قال عليه الصلاة والسلام : ( أُعطوا الأجير حقه قبل أن يَجف عرقه ) [ ذكره صاحبُ مصباح السنة في الصحاح ] !. وأخيراً : لقد طلب الإسلام من العامل مُقابل العناية بحقهِ أن يُجوِّد هو العمل وأن يؤديَ الأمانة فيما استؤمن عليه أو وُكل إليه من أعمال وأمانات ! والإسلام حين يطلب من العامل أن يجوِّد العمل ويؤديَ الأمانة لا يفرق في ذلك بين أن يكون ربُّ العمل مسلماً أو غيرَ مسلم ! بل إن إتقان العمل من حق ربِّ العمل وواجب العامل كائناً مَا كان العمَل وكائناً مَن كان ربُّ العمل وفي الحديث : ( أدِّ الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك ) وفي حديث آخرَ : ( من غشَّ فليس منا ) هذا ما أردت التذكير بهِ بهذه المناسبة أسأل الله تعالى أن يوفقنا جميعاً لعمل الخير وخير العمل آمين وسلامٌ على المرسلين والحمد لله رب العالمين . محمد داوود*