تبنى العلاقات الدولية في عمومها بالأساس على المصالح المتبادلة بين الأمم، وعلى ما يمكن أن يجنيه كل طرف من الأطراف من مكاسب سياسية واقتصادية تراعى فيها قواعد اللعبة الخاضعة للمتغيرات والحسابات الجيو استراتيجية. وتبقى المبادئ والقيم الإنسانية لها مكانتها لتمكين وتوطيد العلاقات بين الشعوب، ولا نستصغر من شأنها. أما أن نتمسك بها ولو على حساب مصلحة الوطن ففي ذلك تهور ومجازفة من شأنها أن تجر البلد إلى العزلة وإلى تعريض كيانه ومصالحه للخطر. والمغرب الذي هو مناصر على الدوام للقضية الفلسطينية باعتباره قضية عادلة لا يتوانى في كل مناسبة أن يكون إلى جانب الفلسطينيين في حدود ما له من إمكانيات. وليس المطلوب من المغرب أن يتحمل ما فوق طاقته وأن يجعل من القضية الفلسطينية قضية وطنية، كما يدعو إلى ذلك الإسلامويون والقومجيون. فهذا ضرب من الخيال ويتعارض مع مصلحة الفلسطينيين أنفسهم. فهي قضية أمة ويتحمل فيها المغرب قسطا من الواجب الذي ينبغي أن يتوزع على كل الدول، وأن يكون الفلسطينيون في ذلك الواجب حجر الزاوية. وحينما نتوجه بالسؤال إلى الفلسطينيين لتحديد واجبهم ومسؤوليتهم تجاه قضيتهم، نفاجئ وبدون استثناء ، وهم يخفون عجزهم، بإلقاء اللوم على العرب واعتبارهم متخاذلين، بل يريدون من الدول العربية أن تقوم مقامهم في مواجهة إسرائيل، فيما هم منشغلون في قضاء مآربهم الخاصة. وشهد شاهد من أهلها وهو السيد عدنان أبو عودة نابلسي المولد وكان مستشارا للعاهل الأردني الملك الحسين بن طلال . فقد حضرت محاضرة لهذا الرجل ألقاها في "جمعية الشؤون الدولية" التي يرأسها الأمير حسن، شقيق الملك الحسين، يلوم فيها الفلسطينيين والأخطاء التاريخية التي ارتكبوها نتيجة جشعهم فكانوا يفضلون التخلي عن أرضهم وموطنهم بحثا عن عقود عمل في دول الخليج وفي أستراليا وكندا. فكان هذا سيناريو من بين سيناريوهات عديدة كالتهجير انتهت بالتفريط في الأرض. ومن اعتاد اليوم على بحبوحة من العيش الرغيد في دول الخليج وغيرها من بيوت فاخرة وسيارات فارهة، كيف تنتظر منه أن يدافع عن قضية ، فاتكاليته تدفعه لكي يفوض أمره للعرب. ومن الحقائق التي تغيب عن أولئك الرافضين للتطبيع وهي أن المرحوم الشيخ زايد آل نهيان كان يبعث بمساعدات مالية للقيادة الفلسطينية آنذاك بتونس دعما للقضية، فكانت المعارك بين قيادات الفصائل الفلسطينية حامية الوطيس حول كيفية توزيع تلك الغنيمة بينها، ويرفض كل فصيل أن يكون نصيبه أقل من الفصائل الأخرى وقد يصل الأمر إلى حدود تصفية الحساب بين قياداتها. وهذه خصوصيات لقيادات هيمن عليها التفكير المصلحي على حساب قدسية القضية، وحينما نستحضرها فإننا لا نريد من ذلك التشفي، وإنما من أجل أن نبين للرأي العام المغربي المتعاطف وجدانيا مع القضية بأن أصحابها قد لا يحملون ذلك الهم الذي يريد البعض أن يحمله للمغرب و للمغاربة. وما ينبغي أن يعلمه عامة المواطنين أن المناهضين للتطبيع لهم أجندتهم وحساباتهم السياسية التي هي ليست على الإطلاق أجندة مغربية، بل الأخطر من ذلك أنهم يتخذون من القضية الفلسطينية وسيلة توريط لخلق متاعب للمغرب وضرب مصالحه الاستراتيجية من خلال التربص بخلق قطيعة بين بلادنا والعديد من الفاعلين من المجتمع الدولي. وقد نسي هؤلاء المناهضون أو تناسوا أن للمغرب قضايا تخصه ولكي يدافع عنها ويضمنها، عليه أن ينهج استراتيجية متوازنة مع محيطه الإقليمي والدولي من دون إفراط أو تفريط .ولسنا ملزمين كي نعادي العالم من أجل القضية الفلسطينية ونخسر قضايانا. إن لم تكن للمناهضين أولويات وطنية فنحن لنا أولوياتنا، ومصالحنا فوق كل اعتبار. ونحن لا نطلق الأحكام على عواهنها. فهناك من القيادات العربية، التي شكلت يوما ما قبلة لمناهضي التطبيع، سلكت مسلك القومية وهددت بإحراق نصف إسرائيل على غرار ما وعدنا به صدام حسين. فأين هو اليوم صدام حسين وأين هو اليوم العراق وشعبه الجائع المشرد. فقد نفخ فيه وكانت العاقبة عليه كارثية وأعادته إلى العصر الحجري. النظام البعثي الاخر المتمثل في نظام الأب والإبن الأسد اعتبر نفسه زعيما لمعسكر المواجهة ولم يقو على مواجهة إسرائيل رغم استفزازاتها المتكررة له وخرقها للأجواء وضربها للعديد من المواقع السورية . وكان حكام هذا البلد يوهموننا بأنهم يحتفظون بحق الرد في المكان والزمان المناسبين. فما زلنا في انتظار ذاك المكان وذاك الزمان. كما لم تكتف سوريا بالإحجام عن إطلاق ولو رصاصة واحدة ضد الاحتلال الإسرائيلي للجولان منذ احتلاله عام 1967، بل فرضت على الفلسطينيين في أراضيها التقيد بمدونة سلوك أساسها خلو مخيماتهم من السلاح وعدم القيام بعمليات فدائية ضد الاحتلال الإسرائيلي انطلاقا من الأراضي السورية. هذه هي الممانعة التي يريدها النظام السوري، وقد فضل أن يستعيض عن ذلك بالأراضي اللبنانية لما كان لبنان تحت الوصاية السورية. قمة المكر القومي كما ينبغي أن يفهمه الرأي العام المغربي، ولا ينبغي أن تنطلي عليه أكاذيب القومجيين والإسلامويين بجر المغرب إلى معاداة إسرائيل فيما هي في واقع الأمر ليست دولة عدوة للمغرب. فعدونا الحقيقي هو الجزائر . فتلك المنظمات التي تعارض اليوم مشاركة شمعون بيريس في "مبادرة كلينتون العالمية للشرق الأوسط وإفريقيا" يومي 5و6 ماي المقبل بمراكش، كالهيئة المغربية لنصرة قضايا الأمة التابعة لجماعة العدل والإحسان، منظمة التجديد الطلابي والمبادرة الطلابية ضد التطبيع التابعتين لحزب العدالة والتنمية، وجماعة السفياني كل هذه المنظيمات ، لم نشاهدها في اية حركة احتجاجية ترفع شعارات ضد السياسة العدوانية للجزائر وكأن هذه القضية ليست قضية وطنية بالنسبة لهم، أو لربما حسب فهمهم يجب أن تظل مأزقا يؤرق النظام المغربي لاعتبارات سياسوية تختمر في العقول الفاسدة المفسدة لهذه الهيئات التي تتحين لسقطة في لحظة تاريخية بئيسة. وليخسئ الخاسئون فالمغرب مصان بنظامه وبإيمان شعب يرقى في بعده الروحاني إلى إيمان الأولياء . فالشعب المغربي فطري في طبيعته وتلقائي في معاملته لكنه غير ساذج ويستأسد على من يحاول استغلال طيبوبته أو يستغفله. وبكل بساطة إسرائيل تؤيد الوحدة الترابية للمغرب وتعمل لتكريس هذه الوحدة في المحافل الدبلوماسية وغيرها، وهناك من الحقائق ما لا يمكن ذكرها ولا يسمح الظرف بها. بينما الجزائر الدولة الجارة لا هم لها سوى أن تدبر المكائد للمغرب وضرب وحدته، وتسخر من أجل ذلك كل إمكاناتها لخلق متاعب لبلادنا. والسؤال المطروح لمن يعارض مجيء شمعون بيريس، على من ينبغي اليوم أن نحتج؟ وبالتالي فلماذا لم تحتج هذه المنظمات على بعض المسؤولين الجزائريين الذين زاروا المغرب للمشاركة في لقاءات إقليمية أو دولية، وأين كانت لما أحرق العلم المغربي في طهران على إثر فوز المنتخب الجزائري على نظيره الكوري في كأس العالم وأهدي هذا الفوز لقيادة البوليساريو . ولماذا هذا السكوت المريب حينما يتعلق الأمر بالجزائر، فيما تكثر غوغائيتهم ويضيع منهم صوابهم، إن كان لهم صواب، حينما يتعلق الأمر بإسرائيل. نامل من المناهضين للتطبيع أن يجدوا أجوبة لهذه التساؤلات، إن كانت لهم أيضا أجوبة. من هو شمعون بيريس الذي أقاموا الدنيا عليه ولم يقعدوها؟ الرجل بولندي المولد قدم صحبة عائلته إلى إسرائيل وعمره لا يتجاوز 5 سنوات. وبعد أن أكمل دراسته، عاش فترة من حياته في "الكيبوتسات"، وهي مزارع تعتمد نظام شيوعية الملكية للمزرعة وتقاسم خيراتها ما بين العاملين فيها. هذه المرحلة من حياته كما سنرى كان لها تأثير على نظرته السياسية والاقتصادية. فالرجل لم يكن عسكريا على الإطلاق. وكونه لم يلبس بزة الجندي فقد أدى الثمن نتيجة ذلك في حياته السياسية من إخفاقات في الانتخابات لا لشيء سوى أنه من الحمائم التي تشجع على المفاوضات السياسية من أجل تسوية القضية الفلسطينية. وهو كان وما زال يشدد على إقامة الدولة الفلسطينية باعتبارها حاجة ضرورية وملحة لخدمة واستمرار دولة إسرائيل كدولة يهودية. وأن توجهه السلمي ونظرته الاستراتيجية لمستقبل آمن وواعد دفعته عام 1996 إلى إنشاء معهد سمي باسمه وهو "معهد بيريس للسلام" . وبالفعل أبان على أنه رجل حوار ومهندسا لمعاهدات السلام بين إسرائيل وكل من مصر والأردن، وبالخصوص اتفاقيات أوسلو المبرمة بين إسرائيل والسلطة الوطنية الفلسطينية عام 1993 والتي كان حينها وزيرا للخارجية في حكومة شريكه رئيس الوزراء إسحاق رابين. هذه الاتفاقيات أرست النواة الأولى لقيام سلطة فلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة. ولولا شمعون بيريس وإصراره على تحقيق هذا الإنجاز لما كتب لهذه النواة أن ترى النور. واعترافا له بهذه الجهود السلمية، تمت مكافئته إلى جانب كل من إسحاق رابين وياسر عرفات بجائزة نوبل للسلام عام 1994. إرادة شمعون بيريس الصلبة في إعادة الحياة لاتفاقيات أوسلو وإنقاذ عملية السلام التي التف عليها اليمين الإسرائيلي وهو في الحكم طوال العشر السنوات الأخيرة ، إرادته هذه لم تتوقف عن تحريكه لهذه العملية من كل المواقع المتاحة له وهو خارج السلطة . وحاول أن يستعيد حضوره السياسي من خلال منصب رئاسة الدولة الذي آل إليه عام 2007 وإلى غاية 2014 لكن رغم سلطاته الشرفية ظل يعمل جاهدا لكن من دون إحداث اختراق حقيقي بسبب تصلب معسكر اليمين المتطرف الماسك لخيوط اللعبة السياسية. غير أن مكانته على الصعيد الدولي جعلت منه ذلك الداعية للسلام والمنافح لقيم العدل والمساواة، وهو ما حمل البابا إلى دعوته مع نظيره الفلسطيني محمود عباس في شهر يونيو 2014 للصلاة بالفاتيكان سويا من أجل السلام بين الإسرائيليين والفلسطينيين. وبما أن الرجل رجل سلام، فبعد انتهاء ولايته كرئيس للدولة في شهر يوليوز 2014 سارع إلى حشد جمهور المؤيدين للسلام في الساحة العمومية لتل أبيب في أواخر شهر أكتوبر المنصرم بمناسبة ذكرى اغتيال رابين . وألقى كلمة بالمناسبة هاجم فيها اليمين الإسرائيلي الحاكم، بالقول: "إن الذين يقوضون جهود مساعي السلام والبحث عنه فهم سذج ويعيشون في الوهم وليسوا بمواطنين... ونأسف لوجود مبادرة عربية للسلام، ولا وجود لمثيلة لها في إسرائيل "، في إشارة منه إلى المبادرة المنبثقة عن القمة العربية ببيروت عام 2002. كما أن المركز الذي أنشأه من أجل السلام عام 1996، حاول من خلاله شمعون بيريس أن يقيم بنية تحتية للسلام والمصالحة على مستوى جميع الفاعلين والمفكرين في منطقة الشرق الأوسط. وبالفعل أعدت العديد من المشاريع على مستوى هذا المركز عنيت بقطاعات التربية والرياضة والطب والاقتصاد وكذلك في مجال الزراعة. وعلى المستوى الاقتصادي، كانت للسيد شمعون بريس نظرية استباقية تتلاءم والخصوصيات الجغرافية للمنطقة وتلبية حاجياتها. ففي رأيه أن الحل لا يقتصر فقط على إنشاء الدولة الفلسطينية فهي ضرورية كذلك لدولة إسرائيل وهذا أمر مفروغ منه، وتساءل في حينه كيف يمكن أن نجعل من دولة فلسطين دولة قابلة للعيش وقابلة للاستمرار. وفي سياق الرد على ذلك، استعرض بداية جملة من التحديات والمعوقات المرتبطة بمحدودية موارد المنطقة كقلة المياه وضيق الرقعة الجغرافية أي 24 ألف كلم مربع التي تشكل في مجموعها مساحة إسرائيل والضفة الغربية وقطاع غزة، إضافة إلى وجود كثافة سكانية تعد من أعلى الكثافات في العالم. وخلص إلى ضرورة تبني مقاربة لا تراهن على الأرض لأن مواردها في الأصل شحيحة وغير كافية. ولذلك يرى أن ما ينبغي القيام به لخدمة الأجيال القادمة ليس فقط قيام الدولة وإنما وضع اقتصاد يعتمد على الذكاء والعلم وليس على الأرض، وعلى تكنولوجية "الهاي تيك"، وإلا فإن التفاوتات في المستويات الاقتصادية والمعيشية بين دولتين من شأنها أن تعيد الصراع إلى مربعه الأول. ومن يستحضر هذه الاعتبارات وحمولة هذا الرجل، فكيف إذن يحق له أن يعارض ويحتج على مجيء رجل من عيار شمعون بيريس إلى المغرب وهو رجل يناضل من أجل عدالة القضية الفلسطينية. وبالتالي لا ينبغي السماح بغمز جانب القيادة المغربية كتغماز التين، فهي قيادة متبصرة وواعية بمصالح المغرب. ومن قبل باحتضان منتدى CRANS MANTANA بمدينة الداخلة ، وهو المنتدى الذي استقدم شخصيات عالمية لأقاليمنا الصحراوية ليعطي بذلك دفعة قوية للطرح المغربي، عليه كذلك أن يقبل بقواعد اللعبة بخصوص "مبادرة كلينتون العالمية للشرق الأوسط وإفريقيا" في مدينة مراكش. فكلهما وجهان لعملة واحدة، وهي لعبة كبيرة لا يمكن للأطفال الصغار من المناهضين للتطبيع أن يفهموها ولن يفهموها لأنهم لم ينضجوا ولم يبلغوا بعد سن الرشد السياسي المطلوب. ولذلك نجدد الترحاب برجل السلام في مملكة التسامح وفي مملكة سبط الرسول عليه السلام، وهو الرسول الذي أحسن معاملة أهل الكتاب من اليهود.