لما كانت تل أبيب تعي جيدا أن التحالف الدولي والإقليمي لمحاربة "داعش" (تنظيم الدولة) يحمل في طياته فرصة ذهبية لأطرافه من أجل تحقيق مآرب إستراتيجية تتجاوز هدفه المعلن المتمثل في القضاء على "داعش" وأعوانه من التنظيمات الإرهابية السنية المنتشرة في ربوع العراقوسوريا والتي تنذر بالتمدد كما السرطان في سائر أرجاء المنطقة، فقد هرع قادة إسرائيل إلى توخى كافة السبل الكفيلة بإيجاد موطئ قدم لها في هذا التحالف، بطريقة أو بأخرى وبأية صورة من الصور، بغية إدراك مرام إسرائيلية إستراتيجية شتى. أوهام الخطر "الداعشى" باستثناء بعض التحذيرات والتقارير الاستخباراتية الاحترازية، يكاد يتفق جل الخبراء والمسؤولين الإسرائيليين على عدم وجود تهديد جاد ومباشر ل"داعش" بالنسبة لبلادهم. فقد أكد كل من وزير الدفاع الإسرائيلى، موشيه يعالون، ورئيس شعبة الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية الأسبق ورئيس معهد أبحاث الأمن القومي بجامعة تل أبيب عاموس يادلين، أن تنظيم "داعش" لا يشكل خطرا مباشرا أو جادا على إسرائيل. واستبعد يادلين وصول تأثير "داعش" إلى الفلسطينيين في غزة والضفة الغربية فكريا أو عسكريا، إذ إن أيديولوجية هذا التنظيم الجهادية موغلة في التطرف إلى درجة تأبى قبولها أكثر التنظيمات في المنطقة تشددا بما فيها تنظيم القاعدة ذاته. وإستراتيجيا لا يتخطى تعداد مقاتلي "داعش" -بما فيه المليشيات التي انضمت له- عشرة آلاف مقاتل، وهو ما يعادل نصف حجم القوة العسكرية لحركة حماس، فيما لا يتجاوز مستوى تسليحه المتواضع سيارات "تندر" وبنادق "كلاشينكوفات" ورشاشات. واعتبر يادلين أن تهديد داعش كمنظمة جهاد عالمية لإسرائيل لا يختلف جوهريا عن تهديد تنظيم القاعدة، الذي تتعايش إسرائيل معه منذ ما يربو على عشر سنوات، وأضاف أنه "في حال قيام "داعش" بنقل نشاطه من العراق إلى إسرائيل فإنه سيقع فريسة للاستخبارات الإسرائيلية وطائرات سلاح الجو والسلاح الدقيق المتطور الذي بحوزة القوات البرية الإسرائيلية". وبعدما نجح أو كاد في إعادة الجيش الأميركي تحت إدارة أوباما إلى العراق مجددا، فإن "داعش" مهدد بعشرات الدول الأعضاء في التحالف الإقليمي والدولي لمحاربته، تقف جيوش بعضها مثل العراق والأردن ولبنان إضافة إلى حزب الله كحاجز بينه وبين إسرائيل. غير أن الخبراء الإسرائيليين قد أجمعوا على أن هناك خطرا فعليا آخر تشكله "داعش" على إسرائيل يكمن في إمكانية صرفه الاهتمام الإسرائيلي والعالمي عن مخاطر البرنامج النووي الإيراني، الذي يمثل تهديدا إستراتيجيا حقيقيا على أمن إسرائيل واستقرار المنطقة والعالم برمته. دور استخباراتي رغم الغياب النسبي لإسرائيل في خضم التحضيرات للتحالف الدولي والإقليمي ضد "داعش"، لم تلبث مصادر غربية وإسرائيلية تؤكد أن تل أبيب تحاول بطرق غير مباشرة أن تكون جزءا من هذا التحالف عبر القيام بدور استخباراتي مؤثر، حيث قدمت حكومة تل أبيب بالفعل للناتو ودول عربية مشاركة في الحرب على "داعش" معلومات قيمة عن مواقع وقدرات وتحركات التنظيم في سورياوالعراق، كما وفرت معلومات استخبارية وصورا التقطت عبر أقمارها الاصطناعية التجسسية لدعم الحملة العسكرية التي تقودها الولاياتالمتحدة ضد التنظيم، والتي أعلن أوباما أن إسهامات الأطراف المشاركة فيها لن تكون عسكرية مباشرة فقط وإنما ستتوزع أدوارها ما بين الدعائي والاقتصادي واللوجيستي والأمني والاستخباراتي. ومصداقا لهذا الطرح نقلت القناة السابعة بالتلفزيون الإسرائيلي "شيفا"، عن سفير الولاياتالمتحدة لدى تل أبيب "دان شابيرو"، أن البلدين يتعاونان منذ بداية أزمة "داعش" في تبادل المعلومات الاستخباراتية حول التنظيم، وأنهما سيواصلان ذلك التعاون دبلوماسيا وعسكريا في أعقاب خطاب الرئيس الأميركي أوباما ليلة الحادي عشر من سبتمبر/أيلول حيث الذكرى الثالثة عشرة للاعتداء على برجي مركز التجارة العالمي، والذي حدد خلاله معالم إستراتيجيته لمكافحة "داعش" في سورياوالعراق. وفى إشارة لا تقبل التشكيك، على اعتراف واشنطن بوجود دور إسرائيلي استخباراتي في الحرب على "داعش"، أكد "شابيرو" أن كون إسرائيل شريكا إستراتيجيا محوريا للولايات المتحدة في الشرق الأوسط كفيل بأن يجعل منها ركنا مهما من أركان الحملة العالمية والإقليمية الراهنة لمحاربة الإرهاب. أهداف إسرائيلية بسعيها الحثيث للتعاون مع التحالف الدولي ضد "داعش" وأعوانه من التنظيمات المتطرفة الإسلامية السنية، تتوخى إسرائيل بلوع مغانم إستراتيجية عديدة على أكثر من صعيد. فمن جهة، تتطلع تل أبيب إلى تفويت الفرصة على طهران وتقويض محاولاتها للمشاركة في هذا التحالف توخيا لترميم علاقاتها مع الغرب وجيرانها العرب بما يساعدها على تقليص فجوة الثقة بينها وبينهم بشأن برنامجها النووي. فالإسرائيليون يتملكهم هلع من أن تفضى أية مشاركة إيرانية محتملة في التحالف الدولي ضد "داعش" صرف أنظار العالم عن البرنامج النووي الإيراني، الذي يعد الخطر الإستراتيجي الحقيقي على أمن العالم وأمن إسرائيل، من وجهة نظرهم، أو أن تغرى واشنطن والدول العظمى بالتسامح مع إيران في المحادثات المقبلة حول البرنامج النووي الإيراني على نحو قد يسفر عن رفع العقوبات الدولية عن طهران كمكافأة لها على تعاونها في محاربة "داعش". وترنو إسرائيل بالتوازي إلى تضييق الخناق على المليشيات الشيعية المناهضة لها في لبنان، والتي تدعم المقاومة الفلسطينية كحزب الله، الذى تعتبره دوائر غربية عديدة، تنظيما إرهابيا، عبر تجييش الاستياء الرسمي والشعبي العربي من تعاظم دور تلك المليشيات في سورياولبنان واليمن والعراق وغيرها. ومن جهة أخرى، يحاول الإسرائيليون توظيف "الفزاعة الداعشية" -التي أضحت تحديا إقليميا وعالميا بامتياز- بغية الخروج من دائرة العزلة والاتهام العربي المزمن لها كمصدر للتوتر وعدم الاستقرار في المنطقة والعالم أجمع، كونها آخر دولة احتلال يعرفها التاريخ الإنساني. وتوخيا لذلك تسعى تل أبيب إلى استغلال فرصة هذا الائتلاف من أجل الترويج لأساطيرها وترهاتها التي تزعم أنها لا تمثل الخطر الأكبر على العرب والمسلمين، بقدر ما يشكلون هم تهديدا أعظم على أنفسهم وبعضهم البعض، حتى أن حصيلة الخسائر المادية والبشرية لصراعاتهم البينية واقتتالهم فيما بينهم تفوق بمراحل تلك التي تمخضت عنها مواجهاتهم العسكرية المتوالية وصراعهم الاجتماعي المزمن والممتد مع إسرائيل. ولكم كان لافتا مدى احتفاء إسرائيل بخطاب أوباما الذى كال الانتقادات للإسلام الراديكالي، حيث أثنت على دعوته تشكيل تحالف واسع لمكافحة إرهاب "داعش" وتأكيده أن "التهديد الأكبر يأتي من الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وبالرغم من كونها دولا إسلامية فإن أفعالها لا تمت بأي صلة للإسلام". وبدوره، دعا وزير الدفاع الإسرائيلي، موشيه يعالون، أجهزة المخابرات حول العالم للتعاون والتنسيق وتبادل المعلومات من أجل مواجهة هذا التهديد. ورغم تأكيد الوزير الإسرائيلي لراديو بلاده، وكذا عاموس يادلين -الرئيس السابق لشعبة الاستخبارات في الجيش الإسرائيلي- أن تنظيم "داعش" لا يشكل أي خطر على إسرائيل أو تهديد مباشر لأمنها إلا أنهما لفتا إلى محاولة تل أبيب البناء سياسيا على التحالف الدولي ضد هذا التنظيم في مسعى لوضعه مع حركات المقاومة الإسلامية المناهضة لإسرائيل في خانة واحدة، توطئة لضمها إلى قائمة التنظيمات الإرهابية الإسلامية التي يستهدفها التحالف الدولي. وفي هذا الصدد قال رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، بمستهل اجتماع مع وزير الخارجية النرويجي في القدس الغربية مطلع الشهر الجاري "إن تنظيمات مثل "داعش"، و"حماس"، و"جبهة النصرة"، و"القاعدة"، و"الشباب" الصومالية، و"حزب الله" المدعوم من قبل إيران، تشكل جميعها خطرا واضحا وفعليا على حضاراتنا، وأسلوب حياتنا وقيمنا، وأعتقد أن الشيء الأهم هو وأدها في مهدها، ومن لا يقوم بذلك سيجد غدا على أبوابه الإرهاب الإسلامي الموجود هنا اليوم". وسعيا لتدشين تفاهمات مع دول الاعتدال العربي وتعزيز التحالفات مع الدول الغربية، دعا يادلين إلى استغلال ظاهرة "داعش"، التي "تفتح فرصا إستراتيجية جديدة أمام إسرائيل، للتعاون مع دول أخرى مهتمة بتقويضه كالولاياتالمتحدة والدول الأوروبية ودول في المنطقة على رأسها الدول السنية المعتدلة، كالسعودية والأردن التي أبدت تل أبيب قلقها من تهديد "داعش" لوحدتها واستقرارها، وذلك من خلال بناء علاقات عمل وتعاون وثيقة بين الأجهزة الأمنية والاستخباراتية فيها". وعلاوة على ما ذكر آنفا لا تتوانى تل أبيب في إجهاض أية محاولات جنينية لتموضع "داعش" بالقرب من الحدود المصرية الإسرائيلية خصوصا بعدما رصدت دوائر استخباراتية إسرائيلية مؤشرات خلال الآونة الأخيرة على تبلور حلف جديد بين تنظيم "أنصار بيت المقدس"، الذي ينشط في سيناء ومصر عموما، و"داعش"، كان أبرزها ما كشفت عنه نتائج تحقيقات مع قيادي في "أنصار بيت المقدس" كان ضالعا في قتل 25 جنديا مصريا، في أغسطس/آب من العام الماضي، فضلا عن تكرار ظاهرة قطع رؤوس جنود ومواطنين مصريين في سيناء بصورة شبيهة بأسلوب "داعش". ومع تتابع ظهور الأدلة على وجود علاقات عسكرية ولوجستية وثيقة بين التنظيمين، لم يستبعد الإسرائيليون إقدام "أنصار بيت المقدس" -الذي أعلن في الماضي عن ولائه للظواهري- على تغيير هذا الولاء ومبايعة "داعش" وزعيمه. وتستشعر إسرائيل -التي "تراقب بقلق بالغ منظومة الأحلاف بين تنظيمات الجهاد العالمية الناشطة على طول حدودها- في التحالف المرتقب بين "أنصار بيت المقدس" و"داعش" مصدر تهديد مباشر لأمنها، لا سيما بعد أن حاول التنظيم المصري مرارا في الماضي مهاجمة إسرائيل عبر الشريط الحدودي، كما سعى إلى إطلاق صواريخ نحو ميناء إيلات، وبعدما أكدت تقارير إسرائيلية تحالف "أنصار بيت المقدس" مع التنظيم السلفي الجهادي الغزي "شورى المجاهدين". وتأمل تل أبيب أن تسفر تلك المعطيات مجتمعة عن اتساع رقعة التحالف الدولي ضد "داعش" ليشمل تنسيقا مصريا إسرائيليا لمحاربة الإرهاب في سيناءوغزة، على حد زعمها. فمن شأن هذه الإستراتيجية الإسرائيلية الشيطانية أن تعين قادة تل أبيب على خلع قناع الجلاد وارتداء لباس الضحية من خلال التغطية على انتهاكاتها المتواصلة للمواثيق والقوانين والأعراف الدولية والإنسانية كما جرائمها في حق العرب والفلسطينيين بالأراضي العربية المحتلة. وهذا الأمر بما يمهد لها السبيل لتعزيز جهودها لإذابة الجليد مع دول عربية وإسلامية في المنطقة وإيجاد وشائج تفاهم إستراتيجى مشترك معها بما يساعدها على محاصرة التهديدات الإيرانية وتطويق الجانب الفلسطيني لا سيما حركات المقاومة المسلحة التي ترفض الاعتراف بإسرائيل أو التفاوض معها وما برحت تقض مضاجع الإسرائيليين بعملياتها النوعية المتطورة.