دخل المخرج المغربي محمد العسلي ذاكرة السينما المغربية والعالمية على السواء لحظة ولادة فيلمه الأول 'فوق الدار البيضاء الملائكة لا تحلق' الذي حصد عدة جوائز وطنية ودولية من بينها جائزة التانيت الذهبي كأحسن فيلم من مهرجان قرطاج السينمائي وبذلك يكون أول فيلم مغربي يفوز بهذه الجائزة في تاريخ سينما المغرب. وشق الفيلم طريقه إلى العالم واستضافته جامعة هارفارد بالولايات المتحدة ضمن أسبوعها السينمائي السنوي وأثار إعجاب الجميع وكان لي شرف المشاركة بالتقديم له وتنظيم النقاش حوله. والفيلم صرخة في وجه البيروقراطية السياسية المرتشية والبورجوازية المغربية المتعفنة وصيحة ضد مجتمع مدمر وانتهازي ومستغل وبلا قيم ولا رحمة. ويوثق الفيلم عبر أسلوب يجمع بين الواقعية والرمزية الايطالية ويمزج بين التسجيلية والروائية وبفوائض صور مليئة بالدلالات، تجارب ثلاثة رجال يهاجرون من القرية إلى مدينة الدار البيضاء، ارض الأحلام المفقودة، بحثا عن عمل ويفضح بلغة عادية وبسيطة علل سرية المجتمع المغربي وعاهاته. ويعتبر هذا الفيلم بأسلوبه الجديد المذهل وبطرحه قضايا اجتماعية ملحة ومهمة سابقة في الإخراج المغربي وقطيعة تامة مع من يريدون وأد السينما المغربية التي احتلت الساحة ولا علاقة لها بالفن. ولن ينطوي تقييمنا على أي مبالغة إذا قلنا إن محمد العسلي أعاد بفيلمه هذا حجر الزاوية إلى مكانه. وما يميز هذا المخرج في واقع الحال موهبته الفنية الكبيرة لكسر الصمت والركود والفجوة الكبيرة في تردي سينما المغرب ومن الصعب القضاء على هذه الحال إلا ببديل قوى. ويجب أن لا ننسى مضاعفات المشكلات التي يتعرض لها بدأت مع بداية مساره الفني حيث يقف وحده في الميدان محاصرا من كل الجهات ومحاسبا على نواياه على الطريقة 'البوشية'. ورغم كل هذه المرارة فالرجل يتمتع بقدرة هائلة على الصمود ولا يستسلم بسهولة إلى حالة اليأس التي فُرضت عليه همها خنق طموحاته المستقبلية برفض دعم أعماله من طرف المركز السينمائي المغربي، فزادته هذه المضايقات تحمسا مليئا بالعزة والفخر والطموح والغيرة على الوطن والفن السابع والكفاح لوحده من اجل الارتقاء إلى مستوى التحدي الذي تطرحه سينما العالم. ومن منا ينسى ذلك المشهد، من فرط القوة الرائعة الصادمة كرأس سهم يصيبك في آخر مكان من روحك، الذي انتهى به فيلم 'فوق الدار البيضاء الملائكة لا تحلق'، عندما طوى الرجل جثة المرأة الميتة الحامل على ظهر بغلة، وكأنها كومة من القبح الإنساني، واستدار ليجر الدابة ويسير وسط التلال المحاصرة المغطاة بالثلج 'السوداوي'، محفوفا بصمت ثقيل يتقاطر له القلب ألما، متجها نحو المجهول، ليختفي من عيون مغتصبي البشرية! انه انتصار حرية الفن والإبداع لأممية الضمائر الضائعة بوعي حاد. فكانت النتيجة أن أعاد لسينما السبعينيات قدر الشرف الذي حظيت به وفتح آفاقاً جديدة للفن السابع وللشباب المغربي للخروج من العقم السينمائي الحالي. مما لاشك فيه أننا من جديد أمام عمل رائع يستحق الحفاوة والإشادة والتنويه وقف وراءه مخرج يمتلك 'رؤية' فنية نعتبرها الأعلى صوتا في الحركة الإبداعية الجديدة وقدرته على الاستيلاء على أركان عقل المشاهد والنفوذ إلى روحه ليزحزحها، وتستشيط الروح بدورها غضبا بسبب ما تراه. انه فيلم 'أياد خشنة' المطول والثاني من نوعه الذي شارك به المخرج محمد العسلي في مهرجان تورنتو السينمائي الكندي، كما تسابق به في مهرجان أبو ظبي السينمائي. وهذا الفيلم، كما الفيلم سابق الذكر أعلاه، يلتقط الأحاسيس حتى أكثرها تعقيدا بأسلوب بسيط ولاذع ويصور ذلك التراكم المتواصل والحثيث للمآسي التي تدمر الفرد وتدفع به إلي حافة الجنون بعدما يتذوق مرارة سأم الحياة في المدن، والسخط الإنساني وحال اليأس والإحباط والدمار العام الذي خيم على نفوس المغاربة رجالا ونساء. لذا فشخصياته تكون دائما عند الحافة على بعد خطوة من الهاوية وقد ترتكب الأفعال الأكثر غرابة لتهرب من خيالها إلى عالم مجهول ومصير غير واضح، فقط للتغلب على زيف الخيال. وثمة دفق إنساني ينهمر من روح المخرج ويسطع على الشاشة من تلافيف الخراب والحثالة التي تنخر في أحشاء البشر وتذوب معها آدميته وقد يتجرد من كل معاني الإنسانية وهو في أقصي حالات الكدر. إنها المدرسة الواقعية الايطالية وعالم فلليني الذي يحكي قصة بسيطة غير مألوفة بأسلوب بسيط وواقعي تحمل في ثناياها نفحات إنسانية، وفي طياتها الوعي الاجتماعي بقيم جمالية تتجاوز حدود العقل. وسرعان ما تخرج القصة من الرحم لتتعقد، وتحملنا في رحلة سينمائية لتفقد ذات البؤس والغش والاختناق الذي ترزح تحته الكثير من الأسر المغربية والصعوبات التي تكابدها وأحلامهم وحيلهم التي يرسمونها للتغلب على الواقع المر وقهر الظروف. ويضعنا المخرج أمام 'حمل صعب' ملحه بواطن الوعي في النفس الإنسانية. انه لغز جمال اليدين اللتين تمتازان بالنعومة، تكابد المرأة الأهوال من اجل اكتسابهما لأنهما ينطقان بأسرارها ويحددان شخصيتها. فهي مرآة جمالها ودليل أناقتها وأنوثتها، فكيف يعقل أن تدمر المرأة مقدساتها بنفسها وتكفر بهما كرد فعل على القيم الأخلاقية والاقتصادية التي ما فتئت تحكم الخناق على طموحاتها المستقبلية؟ إنها قصة المعلمة هدى ريحاني (زكية) التي صُدت أمامها كل الأبواب للالتحاق بخطيبها في اسبانيا وقررت أن تجرب حظها للحصول على تأشيرة بتسجيل نفسها على قائمة العمالة النسوية الموسمية التي تستوردها اسبانيا من المغرب للاشتغال في الحقول والضيعات الفلاحية. وتشترط اسبانيا، المبشرة بالحرية واحترام حقوق الإنسان، على النساء اللواتي يردن الاشتغال في الحقول أن تكون أيديهن خشنة (عنوان الأعمال الشاقة) تتحقق منها لجنة اسبانية تحظر إلى المغرب خصيصا لانتقاء هذه الأيدي، تماما كما تُنتقى قطعان الخرفان الصالحة للذبح والاستهلاك، قبل المصادقة على منح التأشيرة. ويبدأ مهرجان تشويه اليدين القهري بخدش الجلد من طرف زكية، ليس نتيجة اضطرابات نفسية أو لجذب العطف أو الانتباه ولكن بوعي كامل للتعبير عن حالة الكبت الشديد وكل أشكال التعبير عن الغضب واليأس وإحداث الأذى بالنفس نتيجة فقدان الأمل من الحياة. وللبحث عن أبسط الحقوق التي تتمتع بها المخلوقات، تبدأ مسيرتها المعذبة وتتأهب أن تهان وتتقيأ الدم على الإسفلت لتحصل على التأشيرة. ويحملنا المخرج في رحلة ببراعة في تصوير السذاجة والتلقائية بالابتعاد عن الحوار المنمق لرصد الواقع الحافل بالتفاصيل والهموم النفسية والذاتية والهجاء الاجتماعي والسياسي وتمجيد البساطة والفطرة. إنها رحلة يمتزج فيها الواقع بالخيال، والحلم بالحقيقة، وتكشف لنا عن القوى الخفية للخروج من اللحظة المرعبة. ويتحول الفيلم إلى شهادة تقوم بتشريح عناصر الاحتقار والإذلال للذات الإنسانية عنصراً عنصراً. وتحكم المخرج في كل المشاهد بدقة وبخبرة مدروسة وأسلوب سرد محكم حتى لا يدع خيط أفكاره تفلت من قبضته. وعرف متى ينتقل من مشهد إلى آخر بمقدرات فنية سلسة، ووظف الكاميرا بمعاني عميقة تنم على الإلمام بفن زوايا التصوير وعرف كيف يحدد المكان المناسب للكاميرا لالتقاط المشاهد والرفع من حساسية المتفرج، مسندا بطاقم بارع وتقمص للشخصية بأداء راقي وفي منتهى الروعة من جانب بطل الفيلم محمد بسطاوي، الذي يؤدي دور الحلاق مصطفى الأمي-الذكي الذي يعرف كيف يكتسب المال 'الحلال' من الطبقة البورجوازية المرتشية. ومن المشاهد التي تحفر عميقا في الذاكرة تلك التي يراقب فيها زكية، بلباسه الأنيق وهو يقف أمام سيارته في حيه المبقع بالفقر، يشاهدها تخرج من بيتها مع أمها للتوجه إلى مكان لجنة التحقيق الاسبانية ويحيرنا في تلك اللحظة كشجرة 'البوانسيانا' التي تستهويك بسحر زينة جمال أزهارها لكن كلما اقتربت منها اكتشفت خبث جذورها. ولم أتمالك نفسي صراحة من مغالبة تأثري بموهبته واندهاشي لأدائه المذهل. أما الممثل عبد الصمد مفتاح الخير (مساعد مصطفى والواشي المخزني) فبرهن عن حالة فنية استثنائية بحضور فائق وأداء لامع بقسوة نظراته وملامح وجهه الصارمة وبسمة التماسيح التي ترتسم في مخيلة المشاهد وترحل معه أينما رحل فتفيض أحاسيس المحبة له. واعتقد انه استعاد بسمته المشرقة، التي نعتبرها بصمته الفنية مع فيلم 'أياد خشنة' والتي عودنا عليها في فيلم 'فوق الدارالبيضاء الملائكة لا تحلق' على الرغم من أني أخاف عليه انه فقدها في أعمال أخرى (تليفزيونية في الغالب) لم تتناسب مع قيمته الجمالية وذكائه الحاد وانضباطه الفائق. أما الممثلة هدى ريحاني فتتمتع بثبات قوة الشخصية والإلهام الذي يبهرك في أداء دورها بثقة نفس عالية وبصورة تلقائية وعلى فواصل دقيقة وتواقيع متنوعة لا تزيد ولا تنقص ومن دون فقدان التركيز. ولو تأمل المشاهد مشهد لحظة امتثالها أمام اللجنة، حيث يفترس الخوف الرهيب وجه البطلة ويغزو الوجع عينيها الممزوجتين بالسخط، لتكشف لنا عن صراع داخلي وهي مذعورة، وكأنها طفلة ترى البرق أو تسمع الرعد لأول مرة. هنا يشع نجم هدى ريحاني بإلمامها بدورها بدقة متناهية وإحاطة شاملة كاملة وبإتقان وابتكار وابتداع في أبهى حلله تجذب به روح وعقل المشاهد، وتبرهن بمهارة فائقة على رصيد فني هائل يضمن لها مستقبلا زاهرا في عالم الفن السابع. فلا خوف على قوس قزح الذي فاتته فرصة الاعتراف بموهبته الفنية في مهرجان 'الدادائية' الأخير، لأنه لا داعي من تسلق شجرة شهادة زورها فاكهتها. آه...كدت أنسى دور النجمتين عائشة ماهماه وأمينة رشيد. الأولى تختطفك من مكانك أثناء مشاهدتها وهي تقوم بدورها كضريرة بعمق لافت للنظر والتأمل، أما الثانية فقد زادت بصمة خاصة للفيلم بأعجوبة باهرة. وتكتمل الصورة مع عازف القانون، الذي ارتأى المخرج أن يهمشه في الفيلم، للاحتجاج على انهيار وضع الفن وتردي ظروف الفنانين المغاربة، إلا أن أصداء موسيقاه التصويرية قامت فيه مقامه وملأت القاعة في أحسن نقائها وصفائها ورهافتها وأدائها، اهتزت معها روح المتفرج ومشاعره. حسن بنشليخة ناقد ومخرج سينمائي من المغرب