لا يزال «تسونامي» الثورات العربية يتوالى فصولا من مشرق العالم العربي إلى مغربه. ولولا أن الجزائر دفعت ثمنا غاليا طيلة السنوات العشر السوداء (1990-2000) لربما كانت الأوضاع قد انفجرت فيها أيضا بكل عنف، ومع ذلك فإنها ليست بمنأى عن الانتفاضة والاحتجاج. ولهذا السبب فإن الحكم يسارع إلى الإعلان عن إصلاحات كبيرة لاستدراك الوضع وتحاشي الانفجار.. ويرى مؤلف هذا الكتاب أن دهشتنا بهذه الانتفاضات العارمة كانت على قدر جهلنا بالحقائق الداخلية للعالم العربي المترامي الأطراف من المحيط إلى الخليج. وهو منذ البداية يطرح هذا السؤال: كيف يمكن تفسير مثل هذه الأحداث الاستثنائية التي غيرت وجه المنطقة والعالم؟ لحسن الحظ فإن المؤلف باحث قدير واختصاصي حقيقي في شؤون العالم العربي وليس صحافيا متسرعا أو سطحيا كما جرت العادة في أحيان كثيرة.. فهو أستاذ علم الإسلاميات والفكر العربي في جامعة تولوز الفرنسية. وقد كان سابقا أستاذا في جامعة جنيف. كما درس في الأكاديمية العسكرية الفرنسية الشهيرة «سان سير»، حيث أشرف على دراسات ولي العهد القطري. وله أكثر من عشرين كتابا نذكر من بينها: «مدخل إلى علم الترجمة العربية - الفرنسية»، و«الشعر العربي الكلاسيكي»، و«الإرهابيين الجدد"، إلخ. وفي هذا الكتاب الجديد يحاول الباحث تفسير سبب أو أسباب اندلاع الانتفاضات العربية. ولكي يتوصل إلى ذلك فإنه يدرس بعناية البنية الداخلية لاثنين وعشرين بلدا يشكلون الجامعة العربية. فعلى الرغم من التشابهات العديدة فيما بينها، فإن هناك خصوصيات وتمايزات. فبعضها يؤثر عليه العامل القبلي أكثر، وبعضها يؤثر عليه العامل الطائفي والمذهبي أكثر. وفي كل الأحوال هناك ثلاث قوى تؤثر على الجميع هي: الجيش، والقبيلة أو الطائفة، والجامع. إذا لم نأخذ هذه العوامل الثلاثة بعين الاعتبار فإننا لن نفهم أوضاع البلدان العربية بشكل جيد. بالطبع بعضها يؤثر عليه العامل القبلي أكثر كاليمن مثلا أو ليبيا أو الأردن.. إلخ. ولكن بعضها الآخر محكوم بالعامل الطائفي أو المذهبي. وهذه هي حالة معظم بلدان المشرق العربي. هذا العامل الطائفي أو المذهبي يكاد يكون معدوما في بلدان المغرب العربي. لكن لماذا خلع المؤلف على كتابه عنوان «صدمة الثورات العربية»؟.. لماذا اختار كلمة صدمة بالذات؟.. لكي يدحض أطروحة صدام الحضارات السائدة في الغرب والتي تريد أن تسجن العرب والمسلمين في خصوصية متخلفة تستعصي على الحداثة والحضارة والديمقراطية. ويرى المؤلف أنه قد آن الأوان لكي يتخلى الغرب عن الأحكام السلبية المسبقة تجاه العرب والمسلمين. فهذه الانتفاضات أثبتت أنهم شعوب محترمة ترغب في الحرية والعدالة والكرامة مثل بقية شعوب الأرض. فالشعوب العربية ما عادت تقبل بوضع الرعية وإنما أصبحت تطالب بوضع المواطن الحر والمسؤول. وهنا يكمن أحد الجوانب الأساسية للانتفاضات الجارية. ولكن الانتقال من مرحلة الرعية إلى مرحلة المواطنة الحديثة وحقوق الإنسان ليست عملية سهلة على الإطلاق. يضاف إلى ذلك أنها لن تتم بين عشية وضحاها كما أثبتت لنا تجربة الشعوب الأوروبية المتقدمة ذاتها. ولكن الشعوب العربية انخرطت في العملية، ومسيرة آلاف الكيلومترات تبتدئ بالخطوة الأولى كما هو معلوم. ويرى المؤلف أن الشبيبة العربية المنتفضة من المحيط إلى الخليج تفند أطروحة صدام الحضارات اليمينية العنصرية السائدة في الغرب والمدعومة من قبل اليمين الصهيوني أيضا. هذه النقطة الأخيرة لا يذكرها المؤلف ولكنها مؤكدة. فهذه الشبيبة المنتفضة تفعل ذلك باسم الحرية وبروح حديثة تماما وبأدوات حديثة أيضا كال«فيس بوك» والإنترنت عامة. وبالتالي فكلمة «صدمة» الواردة في الكتاب تعني أن أفكار الغرب العتيقة عن العرب قد أصيبت بصدمة هائلة بفضل هذه الانتفاضات بالذات. والغرب مضطر الآن إلى أن ينظر إلى العرب بعيون جديدة غير السابقة. والآن نطرح هذا السؤال: كيف نفسر هذه الثورات؟ كيف نفهمها؟ والجواب هو أنها ثورات تحريرية بالدرجة الأولى: إنها تحرير للناس من الخوف، وتحرير للصحافة من الرقابة، وتحرير للكلام المكبوت للمواطنين. ولكن هذه الثورات ليست تحريرية بالمعنى الراديكالي للكلمة كالثورة الفرنسية مثلا. من هنا جاء الطابع الانتقالي لا النهائي لهذه الثورات. إنها بداية على طريق التحرير الطويل وليست نهاية. إنها الخطوة الأولى التي ينبغي أن تتبعها خطوات أخرى لكي يتحرر العالم العربي فعلا من عقلية القرون الوسطى ويتصالح مع الحداثة. وماذا عن دور الأصولية والأصوليين في هذه الثورات؟ عن هذا السؤال يجيب المؤلف قائلا ما معناه إنه من الواضح أنها لعبت دورا في التعبئة كالشبيبة الليبرالية. ومن الواضح أن الحركات الإسلامية بكل تياراتها سوف تكون حاضرة على المدى البعيد وسوف تلعب دورا سياسيا مهما. ولكن هيمنة الإسلاميين على الطريقة الطالبانية الظلامية شيء مستبعد في البلدان العربية لأسباب داخلية وخارجية. الشيء المرجح هو أن العالم العربي لأسباب تاريخية وبراغماتية سوف يتوجه نحو تبني النموذج التركي الذي أثبت فعاليته حتى الآن. ولكن إذا رفض الغرب دعم هذه الثورات اقتصاديا ودبلوماسيا بل وحتى عسكريا إذا لزم الأمر، فإن التيار الطالباني المتشدد سوف ينتصر. وبالتالي فعلى كاهل الغرب يقع واجب أخلاقي كبير في هذه الظروف العصيبة بالذات. فإما أن يتخلى عن سياسته الانتهازية القصيرة النظر والمتمثلة في موالاة الأنظمة التي تؤمن له مصالحه الاقتصادية وصفقاته التجارية ضاربا عرض الحائط بمصالح الشعوب، وإما أن الأمور سوف تتدهور وتنعطف نحو منزلق خطير. وعندئذ سوف يلوم نفسه لأن الشعوب قلبت في اتجاه التطرف والحقد الأعمى عليه. لهذا السبب ينصح المؤلف قادة الغرب بضخ الاستثمارات والأموال الضخمة في البلدان العربية كما فعل مع دول أوروبا الشرقية بغية تقوية التيارات الديمقراطية والمدنية الوسطية المتسامحة في العالم العربي. وإلا فإن التيار الآخر المعادي للغرب ولكل القيم الحضارية الحديثة سوف ينتصر ويجهض الآمال العريضة التي علقت على هذه الثورات.. وبالتالي فقد أعذر من أنذر. هاشم صالح، الشرق الأوسط، 28 شتنبر 2011.