– المقايضة: يد توقع الاتفاق الاجتماعي ... ويد تقبض "رشوة" حكومية ترفع الدعم النقابي 30% .. – ضحك على الذقون: يستوي فيه كل تبرير نقابي للاتفاق إياه، أو إعلان عن عدم الرضى... عشية تخليد الطبقة العاملة و معها عموم المأجورات و المأجورين لذكرى فاتح ماي 2022 ، نزلت عليهم "هدية" من السماء ، هدية تقاذفتها الأرجل كنها كتلة لهب. هدية "ملعونة" لم يعلن أبوتها أحد. هدية اختاروا لها من الأسماء: الاتفاق الاجتماعي جولة أبريل، والذي اعتبره عموم المأجورين والموظفين اتفاق "استسلام وإذلال" آخر، وذلك بعد الاتفاق المرحلي الذي وقعته النقابات التعليمية. فما الذي جعل هذا الاتفاق يحظى بهذه الكمية المقدرة من الاستنكار حتى بلغ الشأو أن يسارع الموقعون أنفسهم لإعلان عدم رضاهم عنه، و عدم اقتناعهم به، وذلك على الرغم من توقيعهم وسعادتهم وهم يأخذون الصور التذكارية لحفلة التوقيع؟؟ تعالوا إذن نقوم بجولة بين الصفحات الأربع عشرة لاستقراء اتفاق الاستسلام هذا: يبدأ الاتفاق بما سماه " الإطار العام والمرتكزات " ومنذ البدء تنطلق أولى الصدمات. ففي الوقت الذي كانت فيه النقابات تتحدث دوما عن غياب " الديمقراطية التشاركية"، وعن الاقصاء الحكومي والقطاعي للنقابات؛ بل و منها من تحدث عن صناعة الخريطة الانتخابية إبان انتخابات اللجان المتساوية الأعضاء و ما أعقبها من انتخابات لممثلي المأجورين بمجلس المستشارين، نفاجأ بالمركزيات النقابية تصرح في المحضر: " تجسيدا لمقتضيات الدستور الرامية إلى ترسيخ الديمقراطية التشاركية " عجبي؟؟ و كأنه لدينا فعلا هذه " الديمقراطية التشاركية"؛ بل يتم الإعلان دائما في الصفحة الأولى عن "تعزيز ركائز الدولة الاجتماعية"، وعن "رغبة الأطراف الثلاثة في الانخراط الجماعي لتدعيم ركائز الدولة الاجتماعية"، وهو ما يفهم معه أننا وصلنا لبناء الدولة الاجتماعية وما ينقص هو تعزيز ركائزها فقط. وتحدث أنت عن مآسي: التعليم ، الصحة ، السكن ، الشغل ... في نفس الصفحة نفاجأ مرة أخرى بأن جولة الحوار هذه جاءت في " ظل تنزيل النموذج التنموي الجديد "، و هنا تتبخر في الهواء كل اعتراضات وتحفظات المركزيات على "النموذج التنموي"، وهي الاعتراضات التي ما فتئت هذه المركزيات تعلن عنها عبر العديد من بياناتها و بلاغاتها . تستوقفك أيضا بشكل غريب في ما سمي ب " الإطار العام و المرتكزات " ذلك التكرار الببغائي لمسألة " مأسسة الحوار الاجتماعي"، وهي العبارة التي تتكرر في كل الاتفاقات الاجتماعية التي وقعتها الأطراف الثلاثة، وكأن أصحابها سيسألون عنها يوم القيامة، أو كأنهم بصدد بناء شبيه لسور الصين العظيم، رغم أن الأمر لا يعدو آلية نشأ منذ نشأة الدولة الحديثة/ فكيف بمن يتغنى بالديمقراطية التشاركية؟؟ إذا تجاوزنا الملاحظات المتعلقة ب " الإطار العام و المرتكزات " فماذا عن مخرجات الحوار الاجتماعي التي لم تحظ بالرضا المتوقع من قبل عموم الطبقة العاملة ؟ مرة أخرى نجد ذلك الإصرار الغريب على الحديث عن "مأسسة الحوار الاجتماعي " باعتباره "المدخل الأساسي لتحقيق التنمية "، وهكذا يتم الاعتراف بما كان معروفا أننا عشنا في ظل حكومات و قطاعات وزارية / حكومية لا تؤمن بالحوار الاجتماعي ، لذلك ترجمت سياساتها بإقصاء العمل النقابي و معه الشريك الاجتماعي الأهم . نجد أيضا تأكيد للأطراف الثلاثة – و ضمنها النقابات – على احترام مجموعة من المبادئ الأساسية، و على رأسها " اعتبار نجاح الدولة الاجتماعية مسؤولية جميع الأطراف "، حيث يتم الحديث عن " الدولة الاجتماعية " دون تحديد دلالات المفهوم، ولعمري ما معنى دولة اجتماعية لا تجعل من أولى واجباتها تجاه مواطنيها ضمان حق الشغل؟ أم هو التواطؤ على تشويه مفهوم "الدولة الاجتماعية" كما حصل مع مفهوم الديمقراطية؟؟ لكن ما الجديد الذي جاء به الاتفاق الاجتماعي للقطاع الخاص ؟؟؟ لعل أبرز ما جاء به الاتفاق هو توحيد للحد الأدنى للأجر بين قطاعات الصناعة والتجارة والفلاحة والمهن الحرة، و قد لا يثير هذا التوحيد اهتمام الكثيرين، لكن علينا أن لا ننسى أن المخزن كان يعتبر دوما فلاح البادية المدافع الأول عن العرش كما كتب المؤرخ الفرنسي "ريمي لوفو "، بل و إلى وقت قريب كانت الدولة تعتبر العالم القروي حديقتها الخلفية التي لا يسمح لأي تنظيم سياسي باقتحامها، ولم تفتح بعض من الفجوات في هذا الجدار الفاصل إلا في السنوات الأخيرة، وهو ما تنظر إليه الدولة بغير قليل من الريبة والحذر. لذلك تسعى السلطة إلى إعادة تقوية هذا الجدار من خلال دعم "طبقة" عمال الفلاحة، سواء عبر توحيد الحد الأدنى من الأجور، أو عبر "الرفع من قيمة التعويضات العائلية بالنسبة للأبناء الرابع والخامس والسادس من 35 درهم حاليا إلى 100 درهم في الشهر"، وهي التعويضات التي نظر بغير قليل من السخرية من عموم الموظفات والموظفين، رغم أنه موجه أصلا للعاكلين في الطاع الفلاحي والعالم القروي، وهو العالم الذي يبلغ معدل متوسط عدد أفراد الأسرة الواحدة فيه مقارنة مع ساكنة المدن. و خدمة لنفس الاستراتيجية السياسية المتعلقة بضمان تحصين البادية من كل ارتداد محتمل عن وظائفها التاريخية في الدعم اللامشروط للسياسات المخزنية، يمكن قراءة ما سماه المحضر ب " تيسير عمل المرأة "، وحديثه عن تحمل الدولة تكاليف التصريح " بالعاملات و العمال المنزليين لدى مشغليهم ". و نحن ندرك الانتماء الطبقي لهذه الفئة الآتية في أغلبها من العالم القروي . فالدولة تعمل كما قلنا على تحصين أسوار حديقتها الخلفية و على تحصين المدافع الأول عنها " الفلاح " المغربي، مما يحفظ توازنات السلطة الاجتماعية من أي إخلال بسياساتها الاستراتيجية. و ماذا عن القطاع العام ؟ يتحدث الاتفاق عن " تحسين القدرة الشرائية لفائدة الموظفات والموظفين " من خلال مجموعة من الإجراءات غير الواضحة، لذلك اتسمت لغة هذه الإجراءات بسمات الإنشائية، والتسويف، والتأجيل. وإذا ما استثنينا الحديث عن " رفع الأجر الأدنى بالوظيفة العمومية إلى 3500 درهم صافية " ابتداء من " فاتح شتنبر 2022 "، وعن رفع حصيص الترقي بنسبة ثلاثة نقط أي من 33% إلى 36%، فإن كل باقي الوعود الإجرائية تميزت بالغموض، وهو ما جعل عموم الموظفات والموظفين ينظرون بعين الشك والريبة إلى هذا الاتفاق، لا سيما ,انهم خبروا لمرات متوالية تراجع الحكومات المغربية عن التزاماتها و اتفاقاتها الملزمة الواضحة فكيف يكون الشأن مع التزامات غامضة مبهمة. وحتى لا يظل خطابنا عاما مجردا نعرض إلى أمثلة وردت في هذا الاتفاق، متسائلين عن معنى النص على: – "الزيادة العامة في أجور القطاع العام" دون تحديد نسبة هذه الزيادة ؟؟ – "مراجعة نظام الضريبة على الدخل من خلال مراجعة الأسطر و نسب الضريبة " دون أي ذكر لنقط و أرقام هذه المراجعة ؟؟ – "إحداث درجة جديدة للترقي" سبق النص عليها قبل عقدين من الزمن في اتفاق 26 أبريل 2011 دون أن يتحقق، بل إن صياغة هذا المطلب جاءت أكثر هشاشة في هذا الاتفاق مقارنة بسابقه، مما يثير تخوف فئة واسعة من الموظفات و الموظفين – خاصة المشتغلين بقطاع التعليم – باعتباره مطلب تم الالتفاف عليه بدل أجرأته بتحديد كيفيته وزمنه. – الحديث عن " تسوية الملفات المتوافق حولها في قطاع التربية الوطنية"، وعن " تفعيل الإجراءت المتوافق بشأنها في القطاع الصحي" هو إما حديث عن مستقبل لا تدري إلا الحكومة أجله، أو حديث عن اتفاقات سبق التفاق حولها والمفروض أجرأتها، و عليه فلا شيء جديد تحت شمس أحرق لهيبها جيوب الموظفات والموظفين، وحققت بينهم إجماع التنديد بهذا الاتفاق، بل واستنكار جل بنوده التي رأوا فيها تراجعا عن مكتسباتهم، ومنها مكتسب الترقية بعد النص عن " مراجعة منظومة التنقيط و التقييم " و الحديث عن " اعتماد مبادئ منسجمة ومعايير محددة تراعي خصوصيات بعض الوظائف"، على اعتبار أن هذا الحديث يعد تراجعا عن مسارات الترقية الحالية و خاصة الترقية بالأقدمية . تحدث الاتفاق بعدها عن ما أسماه ب " احترام الحريات النقابية وتعزيز التمثيلية النقابية "، وعن " استكمال الترسانة القانونية لتشريعات العمل و ملاءمتها مع تحولات سوق الشغل الوطنية و الدولية ". و مرة أخرى تخرج الحكومة العصا و الجزرة، و مرة أخرى تتحدث عن " إحالة تشريعات العمل المعنية : مشروع القانون التنظيمي لممارسة حق الإضراب، ومشروع القانون المتعلق بالمنظمات النقابية " بل وحددت أجلا للقانون التنظيمي المتعلق بالإضراب في يناير 2023، وهو القانون التنظيمي الذي ظلت كل الدساتير تنص عليه منذ سنة 1962 دون أن يتم إصداره على امتداد الولايات التشريعية العشرة التي مرت من الحياة البرلمانية المغربية. لا يمكن التغافل عن طبيعة الدمج في الاتفاق بين القانون التنظيمي المتعلق بالإضراب و"القانون المتعلق بالمنظمات النقابية"، وهو ما يجعلنا أمام مقايضة ضمنية مخيفة. ذلك أن هذه المنظمات التي ظلت تستفيد من الدعم الحكومي، ومن تدفق أموال دافعي الضرائب في صناديقها دون أدنى محاسبة و لا مراقبة ، بعيدة عن أي تتبع لمجالات صرف أموال الدعم، بل و ظل على رأس هذه النقابات و قطاعاتها الوطنية قيادات المفروض أن لا شيء أصبح يربطها بهذه النقابات و قطاعاتها بعد حصولها على التقاعد، بل جل هذه المركزيات لا تحترم لا دوريات مؤتمراتها و لا بنود و فصول قوانينها، ورغم ذلك تظل هذه القيادات تتمسك بكل حرية برقاب الآلاف من العضوات والأعضاء في غياب قانون النقابات على وزن قانون الأحزاب، و قد ظلت الدولة دوما تساوم هذه القيادات بخروج هذا القانون لتنتزع من القيادات النقابية ما تريد انتزاعه، مخوفة إياهم بفزاعة هذا القانون الذي يستتبع إجراءات رقابية تريد هذه القيادات أن تظل بعيدا عن مقصلتها . ثم نصل إلى النقطة المثيرة للجدل، والتي لم يبرأ من مرضها الجسد النقابي لحد اليوم، و هي قضية " إصلاح أنظمة التقاعد". هذا الإصلاح الذي لازال جل الموظفات و الموظفين يحملون مسؤولية "الإصلاح" أو التدمير السابق للنقابات، والتي بدورها تتفاذف الاتهامات بينها بخصوص الطريقة التي مر بها القانون و كيف تشتت النقابات في التعامل معه بين مقاطع ومنسحب ومتحفظ ورافض، و اليوم و من جديد تم الاتفاق بين الأطراف الثلاثة الموقعة على المحضر على ما أسموه ب " إصلاح أنظمة التقاعد " مع الحديث عن اعتزام الحكومة " إطلاق إصلاح شامل لأنظمة التقاعد ". والأكيد أنه في ظل حالة الجزر الذي يعرفها العمل النقابي؛ و فقدان الثقة في القيادات النقابية؛ وابتعاد عموم المأجورين عن النقابات التي فقدت قوتها و شراستها؛ والتي أصبحت أقرب إلى "النقابات الأليفة " المدجنة... الأكيد أن هذا الإصلاح الموعود لن يكون إلا على حساب الموظفين عبر إقرار ثلاثية الضرر والضرار: "اشتغل أكثر، وساهم أكثر، واستفد بشكل أقل". تحدث الاتفاق عن "النزاعات الاجتماعية" وعن " تفعيل اللجن الإقليمية للبحث والمصالحة"، و هي لجن يدرك جل النقابيين حق الإدراك دورها المحدود – إن لم نقل دورها الصوري – وعدم قدرتها في ظل مدونة الشغل القائمة عن حل أقل المشاكل صعوبة، دون الحديث عن القضايا المتشابكة التي تستعصي حتى على " اللجنة الوطنية للبحث والمصالحة " نفسها، لذلك يعد كل حديث عن أدوار متقدمة لهذه اللجن بعيدا عن كل إصلاح حقيقي لمدونة الشغل مجرد بناء ناطحات أوهام فوق رمال متحركة. يمكن مزيد من إضاءة خلاصات هذه القراءة الأولية للاتفاق الاجتماعي الموقع بن الحكومة والباطرونا والمركزيات النقابية بتصريحات وزير الإدماج الاقتصادي والمقاولة الصغرى والشغل والكفاءات "يونس السكوري" الذي صرح في كلمة له بمناسبة فاتح ماي 2022، بأن "مبلغ الدعم المخصص للمركزيات النقابية سيرتفع بنسبة 30 في المائة، بهدف احترام الحريات النقابية وتعزيز التمثيلية النقابية" مضيفا أن ذلك يستهدف "مراجعة الدعم في جانب التكوين النقابي بما يعزز دور النقابات في التأطير والتكوين" !!! يمكننا على ضوء بنود الاتفاق، وتصريحات السيد الوزير أن نفهم و نتفهم مقدار غضب عموم المأجورات والمأجورين، وعموم الموظفات والموظفين الموجه ضد نقابات اختارت التخلي عن مطالب من تمثلهم لصالح التوقيع عن اتفاق يرضي تطلعات السلطة والباطرونا. وهو ما يزيد من حجم التباعد بين قواعد عمالية متشبثة بحقها في النضال و بين قيادات رفعت راية الاستسلام بعد أن فعل بها الزمن فعله. فهل سيعطي هذا الاتفاق انطلاقة أخرى لهجرة واسعة من النقابات نحو التنسيقيات؟ مستقبل الأيام كفيل بالإجابة عن خيارات الشغيلة والقوى العاملة على هذا السؤال وغيره.