يُعرف "الهذيان" في "معجم المعاني الجامع" بأنه "اضطرابٌ عقلي مؤقت يتميز باختلاط أحوال الوعي"، أما "هذيان العظمة"، فيُقصد به "الإحساس المبالغ فيه بالأهمية والعظمة"، أما إذا "تعدى هذا الإحساس الحدّ المعقول أصبح وهماً بالعظمة". والحقيقة لم أجد وأنا أفتش عن وصف يعكس تصريح وزير خارجية الجزائر الأخير سوى كلمة "هذيان"، و"هذيان العظمة" تحديدا. فرئيس الدبلوماسية الجزائرية، بلد المليون ونصف المليون شهيد، وهو العارف المفترض بأصول الدبلوماسية وقواعدها، أمطر المغرب ومجمل بلدان المنطقة المجاورة (تونس، ليبيا ومصر(، بتهم كبيرة، وبنعوت وأوصاف قدحية، لا تصدر عن إنسان عادي، فبالأحرى عن رئيس دبلوماسية بلد عريق وكبير، وقائد بتصريح قادته. ولأن كلامه هذيان ليس إلا، سأتعفف عن اجترار مضمونه، وأنظر، في ما يسمح به حيز هذا العمود، في حمولة مُفرداته، وما تنمّ عنه، وما تنطوي عليه من أضرار بالنسبة إلى الجهة المُرسِلة قبل الجهة المرسَلة إليها. نُذكر أن التصريح جاء في سياق انطلاق أشغال الجامعة الصيفية ل"منتدى رؤساء المؤسسات" )18 20 أكتوبر 2017( وهو أكبر تجمع اقتصادي لرجال الأعمال الجزائريين بُغية البحث في سُبل إنعاش الاقتصاد الجزائري، الذي طاله الركود منذ سنوات، والذي تُنذر نتائجُه باحتمال حصول انهيار كامل، إذا لم تُقدم الدولة على إجراءات شجاعة لمعالجة الاختلالات. لذلك، يساعدنا سياق التصريح على فهم أبعاده ومراميه. وحيث إن وزير الخارجية الحزائري )68 عاما(، مازال سجين تفكير النخبة القائدة في الجزائر، التي يتراوح متوسط عمرها ما بين 70 75 عاما، فقد عزّ عليه إدراك أن دبلوماسية بلده فقدت بالتدريج أرصدة قوتها منذ عقدين من الزمن، وأن موقعها اليوم، وفي اللحظة التي كان يزرع الطمأنينة في نفوس رجال أعماله، أصبح شاحباً في العالم وفي إفريقيا على وجه التحديد، وأن الحديث عن الحاضر والمستقبل بمنطق الماضي لا يعدو أن يكون ضربا من التيه والهذيان، وأن كلاما من هذا النوع يضر ببلده أكثر مما ينفعه. يشعر المرء بكثير من الحزن والشفقة، حين يجمع رئيس دبلوماسية جهة بكاملها في كفة ويضع بلده في الكفة الموازية، ويحكم أن كفة بلده هي الراجحة، وأن لا نظير لها في المنطقة، ويستطرد كعادة نمط التفكير الذي ينتمي إليه في استعمال مفردات بلغة فرنسية مكسرة، ممزوجة بدارجة ذات لكنة خاصة كلها تضخيم للذات، وإبراز ل"الأنا" في أقصى صورها. لاشك أن ما حصل أكثر من خطأ في حق بلد شقيق، أي المغرب، وفي حق أشقاء ما يجمعهم مع الجزائر أكثر مما يفرقهم. لكن ما هو لافِت للانتباه في هذه النازلة أن المؤسسات العليا في الجزائر التزمت الصمت، ولم يصدر أي ردّ فعل من جانبها، وكما يقول المناطقة والقانونيون: "الصمت دليل على الرضا". ومع ذلك، يمكن الجزم بأن تصريح عبدالقادر مساهل، التلمساني المولد (1948 (، حمل الكثير من الدلالات والنتائج، أبرزها، أن الاستراتيجية الجديدة للمغرب تجاه إفريقيا تسير في الطريق الصحيح، وأن العودة إلى الاتحاد الإفريقي قرار حكيم، وأن صياغة ثقافة جديدة في التعامل مع البلدان الإفريقية أكثر من مطلوبة، وسيعمق المغرب نجاحه في إفريقيا أكثر حين يلمس المواطنون المغاربة في حياتهم اليومية ثمار عودتهم إلى القارة الإفريقية. ثم هناك نتيجة أخرى قدمها تصريح "هذيان العظمة"، من حيث لا يدري صاحبه، هي أن وزير الخارجية كان موضوع امتعاض وسخرية ونقد لاذع وتقليل من شأنه من بني جلدته أولا، قبل المغاربة ومن حولهم في العالم. فيكفي متابعة بسيطة لوسائل التواصل الاجتماعي لمعرفة طبيعة هذه الردود، وانعكاساتها السلبية على مكانة الجزائر وسُمعة دبلوماسيتها. لذلك، ليس أمامنا إلا الاستمرار في مراكمة الثقافة الجديدة في تعاملنا مع إفريقيا، والاستثمار الأمثل لوجودنا الاقتصادي والدبلوماسي في قارتها، بما يعظم قوتنا، ويعزز تماسكنا الداخلي، ويقوي شعور الناس بأن هناك ثمارا حقيقية نجنيها من هذه القارة.. أما الشقيقة الجزائر فليس لنا من خيار آخر سوى التماس الهداية لنخبتها، والرفعة لشعبها، الذي قلما تجد من بينه من لا يعتبر المغاربة إخوة وأشقاء.