«إما أن تمنحني الدولة ذلك الشرف.. شرف متعاون ولص مرخص له يأخذ أتعابه كل شهر أو كل يوم أو مرة واحدة في العمر، وإما فأنا الذي سيمنح الدولة شرف عداوتي حتى النهاية». رواية الحي الخطير- محمد بنميلود *** أودُ في هذا العمود أن آخذ القارئ في جولة بين دروب «الحي الخطير».. بين أزقة وبيوت وأكواخ ويوميّات «أبطال» القاع والآلام. مناسبة ذلك أفعال التوحش والبشاعة وأحاسيس الخوف والغبن التي تجتاح يوميّات المغربي مرّات متلاحقة في اليوم الواحد وتهز كيانه. أرمي من ذلك إلى تقديم صورة مقرّبة عن حياة ودوافع بعض أبطال تلك الأفعال. أبطال يجابهون تعقيدات وتشابكات هذا العالم المتكبّر بالسواطير والسيوف وقناني الخمر وزيارة العاهرات. لنتجول معاً في نص أدبي رفيع يصلح تشخيصا بالغ الدقة لنفسية الإنسان المقهور والغاضب، بما أنه يعطي دور البطولة على طول حكايته لهذا الإنسان الذي يتأبط سكينا رفقة جماعة من الأصدقاء اللصوص والقتلة، يسرق ويقتل ويغتصب وينشر الرعب، لكن لأسباب أخرى.. لأسباب تبدو في الغالب وجيهة! تحكي الرواية عن طفل يترعرع في حي هامشي من الأحياء التي تنبت بضواحي المدن في أعقاب الهجرات الجماعية من القرى طلبا لعيش رغيد في أحضان المدينة. ما لا يحصل في الغالب. «فقد كان نظام الجماعة والفقيه والوجهاء، والأمثال الشعبية الضاربة جذورها في زمن غابر، هي قانونهم ودستورهم وطريقة حياتهم، حتى في عمق عاصمة تنحو أكثر باتجاه التمدن والتعقيد والقراءة والكتابة». حي يعيش بهذا الإيمان، وبلا أدنى شروط العيش، ما يجعل سكانه يسلكون مسارب مظلمة للبقاء. تتناسل العصابات، وتنتعش تجارة الحشيش والتهريب ودور العهارة، ويعاني من يبقى خارج مراكز القوى الجديدة هذه سطوة طرفين حاسمين: المخزن والعصابات المسيطرة على الحي. في هذا الحي سيحترف مراد، بطل الرواية، بيع الحشيش بداية مع صديقه «رشيد». ومع توالي الأحداث الفظيعة والصادمة التي يقف عليها مراد في مسيرة عمره، سيتشكل له وعي مبكر بأن «الجريمة لا تعني العار والخطيئة والضلال، بقدر ما تعني الدفاع عن النفس». فداخل حي تحكمه السواطير والعصابات وتجار المخدرات وحكرة المخزن، «كل يوم جديد في حياتك هو يوم حرب، ومن يضعف أثناء الحرب أو يشفق على ضحيته، يصبح في لمح البصر هو الضحية». في الحي الخطير، يقف مراد كل مرة –ومعه القارئ- أمام قصص مروعة. لكن مراد يمتاز عن البقية بأنه يفك الحرف وفي داخله بقيّة من خيال ماركسي ثائر. يحكي لنا السارد قصة العربي الفرناطشي. الأعور الصامت المنعزل الذي لا صديق ولا أنيس له غير ألسنة اللهب وكلبته «لايكة» السوداء. سنكتشف فيما بعد أنه قاتل متسلسل و«نيكروفيل» يجامع الجثث. يتصيّدها في منطقة معزولة. يقتل ضحاياه «بضربة واحدة في الرأس». يدخل الجثة في كيس ضخم ويجرّها إلى الفرّان. يجامعها ثم يدفعها لتحترق في الجحيم. العربي يجر وراءه تاريخا مرضيا. في الحي، كل مجرم يجر وراءه رضة نفسية. بين من تعرض للاغتصاب، ومن شاهد أسرته تُباد أمام عينيه، وبين من شرد، ومن اقتيد إلى السجن ظلما، ومن قتل غدرا بسكين طائش، في معركة بلا معنى، وصولا إلى البطل نفسه، مراد، الذي سيكون عليه التعايش مع الحقيقة الموجعة التي سيكتشفها لاحقا: أمه عاهرة. قوة الرواية تنبع من قدرتها على التعبير عن التصوّرات والتمثلات التي يحملها المعطوبون لحالهم وهمومهم وعلاقاتهم بالبوليس والمخزن وبقية المجتمع، بل والعالم، بحياد كبير أو قل بدم بارد. لا يهم الحكم أو تبرير الأقوال، بقدر ما يهم تعبير الفرد عن ذاته كما بات يستوعب العالم من حوله، ويتحرّك فيه بفعل تاريخ من الغبن والآلام. الراوية تأتي أيضا بنقد حاد وقوي للدولة بمختلف أجهزتها عبر شخصية «القايد»، الذي يستغل قربه من المخزن في التسلط على سكان الحي. قراءة الرواية قد تفيد في الاقتراب من حياة البؤساء كما تبدو من القاع، بعيدا عن الأحاديث المقعرة والنداءات المنفصلة عن الواقع. فالراوية أفضل كذبة تقول الحقيقة.