الأرقام لا تكذب لكنها لا تقول الحقيقة دائما، وهذا ما حصل مع وزير الاقتصاد والمالية الذي جاء إلى البرلمان، أول أمس، ليقدم مشروع قانون ميزانية 2016 بكثير من التفاؤل والقليل من الحذر… سبق أن كتبنا عن الجانب الإيجابي في هذا المشروع، وعن توجهاته الاجتماعية التي لا يمكن إنكارها، والآن سنتحدث عن الجانب المظلم في مشروع قانون مالية 2016 الذي سيشرع البرلمان في مناقشته الأسابيع المقبلة. عندما يطل المرء على مشروع الميزانية هذا، أول ما يسترعي الانتباه هو ضعف هامش المناورة لدى الحكومة، فظهر حمار الدولة المالي قصير، وهذا يحد من الإبداع ومن الحركة، ويجعل الحكومة تدور في حلقة مفرغة، بغض النظر عن كيفية توزيع هذه الميزانية على القطاعات. إن وضعنا يشبه وضع عائلة اشترت قطعة حلوى لثلاثة أفراد فيما هي مشكلة من 12 فردا، فمهما كان التوزيع عادلا ستبقى مشاعر الخصاص والحرمان وحتى الغضب هي سيدة المكان. لقد ظلت العائدات الضريبية للدولة جامدة، أو تسجل سوى زيادات رمزية لا تستجيب للحاجيات المتزايدة للدولة والمجتمع (من المرتقب أن يسجل مجموع الموارد العادية الميزانية سنة 2016 حوالي 207 ملايير درهم، فيما سيسجل في نهاية 2015 حوالي 201 مليار درهم، أي بزيادة 2.6٪، وهذا مجرد توقع قد يحدث وقد لا يحدث). أما مساهمات المؤسسات العمومية، أي أرباح شركات الدولة، كلها فمن المتوقع، حسب القانون المالي الجديد، أن تنزل من 9 ملايير درهم سنة 2015 إلى 8.3 ملايير درهم سنة 2016… مما يعني نزولا بحوالي مليار درهم، ماذا تعني هذه الأرقام؟ تعني شيئين؛ أن النظام الضريبي في المغرب فاشل، وأن وزارة المالية ومديرية الضرائب عاجزتان، من جهة، عن البحث عن طرق جديدة لتوسيع الوعاء الضريبي ومحاربة التهرب والغش، ومن جهة أخرى وزارة المالية لم تهتدي بعد إلى وضع حوافز ضريبية ومالية ملائمة لإدخال جزء من النشاط الاقتصادي غير المهيكل إلى القطاع المهيكل لضعف فهم الوزارة للنسيج الاقتصادي المغربي. أما السبب الثالث لضعف المداخيل الضريبية للدولة فهو مشكل التحصيل، حيث يتحدث تقرير المجلس الأعلى للحسابات عن أكثر من 40 مليار درهم من الضرائب غير المحصلة اليوم، ناهيك عن ضرائب الجماعات المحلية وغرامات الأحكام القضائية على الأفراد والشركات والتي تعجز وزارة العدل إلى الآن عن تحصيل جلها، يتحدث الخبراء عن أكثر من 120 مليار درهم هي أموال للدولة ضائعة لا تجد من يحصلها ويبحث عنها ويفكر في طرق ذكية للوصول إليها. أما ضعف مساهمات المؤسسات العمومية في ميزانية الدولة فهو راجع، من جهة، إلى أسباب سياسية وأخرى تدبيرية. السبب السياسي أن رئيس الحكومة، عبد الإله بنكيران، مازال يتهيب في محاسبة هذه المؤسسات العمومية التي يحضر في جل مجالسها الإدارية، ويكتفي بوعظ رؤسائها، وحثهم على الرفق بالمال العام والمصلحة الوطنية والمواطنين، في حين أن القانون أعطاه السلطة الكاملة لمحاسبة هذه المؤسسات وتغيير رؤوسها، ووضع دفاتر تحملات دقيقة أمام إداراتها، والدخول معها في نمط التسيير والإدارة المعتمدة، فهل يعقل، مثلا، أن صندوق الإيداع والتدبير، بشركاته التي تفوق ال100، يخسر كل سنة في جل الأنشطة التي يقوم بها؟ لماذا لا يسأل البرلمان والحكومة إدارة «بلاس بيتري» عن حجم الخسائر التي تسجلها في 90٪ من الأنشطة التي تمارسها من البناء إلى صناديق التقاعد إلى الأنشطة المالية… (اسألوا الرفيق الباكوري عن سبب توريط «السي دي جي»، أيام كان إمبراطورا لها قبل أن ينزل إلى السياسة، في شراء أسهم شركات عقارية معينة، وهي اليوم تغرق في بورصة الدارالبيضاء، ومعها تغرق أسهم صندوق الإيداع والتدبير وأموال اليتامى والمحاجير والتقاعد ومستحقات الشعب). السبب الثاني الذي يجعل جل المؤسسات العمومية فاشلة ولا تساهم في ميزانية الدولة بأموال معتبرة هو سوء تسيير جلها وغياب المحاسبة (تصوروا أن «السي دي جي» ومنذ إحداثها في أواخر الخمسينات لم يزرها مفتشو المجلس الأعلى للحسابات سوى قبل سنة واحدة، وإلى الآن لم يصدر جطو أي تقرير عن إمبراطورية «بلاس بيتري»). المغرب بلد غني نسبيا، لكن دولته فقيرة يقينا لأنها لا تعرف كيف تبحث عن حقوقها، وخاصة لدى كبار القوم، هي فقط «تحكر» على الضعفاء. انظروا إلى وزير المالية الحاج بوسعيد الذي جاء إلى البرلمان، دون أي خجل وأمام رئيس الحكومة وممثلي الأمة، ليقول إن الدولة لن تنفذ الأحكام القضائية النهائية التي صدرت ضدها إلا في حدود 800 مليون درهم، في حين أن مجموع الأحكام القضائية الصادرة ضد الإدارة لفائدة المواطنين الذين انتزعت أراضيهم للمنفعة العامة أو تضرروا من قرارات الإدارة وربحوها في المحكمة يزيد على 18 مليار درهم في أقل التقديرات. ما معنى أن يخصص وزير المالية 800 مليون درهم لتعويض المواطنين عن حقوقهم، وفيهم فقراء ويتامى ومحرومون، في حين يخصص 12 مليار درهم للمخطط الأخضر الذي يصرف هبات بالمليارات للفلاحين الكبار؟ هل يستطيع أي فرد أن يترك أداء ما في ذمته من دين معلقا ويصرف أموالا لإعانة أشخاص آخرين؟ هذا لا يعقل في منطق الفرد فكيف يُستساغ في منطق الدولة المفروض فيها أنها وصية على العدل والإنصاف. ألا يقول الفلاسفة: «إن أصل الدولة فكرة أخلاقية»… غدا نكمل رسم الجوانب المظلمة في قانون المالية الجديد.